مقالات
عن الصيام، كطقس للحرية
حتى لو يكن هناك شيء اسمه الله، ولو لم تتنزل الكتب ولا وُجد الأنبياء، لا الشرائع والفروض، حتى دون رمضان، كنت بحاجة بين الفترة والأخرى، للإمتناع عن كل شيء، أحتاج لتنشيط فكرة الرفض بداخلي، التخلي، التنازل عن أي احتياج لما هو خارج عني، أحتاج الصيام، كما أحتاج الحرية، أقدس فكرة في الوجود، شيء ما داخلي يهفو لهذا التمرين الروحي البديع.
تستعبدك الحياة طوال العام، تُغرقك بشتى الرغبات، وتخلق داخلك باستمرار احتياجات دائمة، تشحنك بكل ما تحتاجه وما لا تحتاجه، وتجعلك أسير لكل ما خلقته بنفسك. الحياة بهذه الصيغة ذليلة، ما تنثره حولك ليس تعبير عن كرم بل حيلة لافسادك، هي لا تسهم في اثراءك، بل تُفقرك، فكرة الاستهلاك، لا تساعدك في توسيع دائرة حريتك، بل تضاعف قيودك، تُضعف قواك الداخلية وتحيلك لعبد عاجز عن الحياة دونما ممتلكات حولك تدعِّم وجودك. ثم يأتي رمضان، هذه الفكرة العالية، الصوم، هذا المقترح الذكي، يأتي هذا الطقس الحر، قوة باطنية تحررك من قيود العيش وذل الحاجة، وبقدر رغبتك بالحرية، يكون قوة ارتباطك بهذا الطقس واحتفاءك به.
إذا كان هيراقليطس قد شعر بالحاجة للصوم قبل 2500 سنة، فلاسفة وحكماء كثر، من لاو تسو في أقصى شرق الكوكب، خلف سور الصين العظيم وصولا لجزيرة العرب، حيث شعر النبي محمد هو الأخر_وقد كان مجرد من كل شيء، بلا أرصدة ولا تجارة ولا عقارات، يعيش متوسدًا الحصير وملتحفًا سعف النخيل_ شعر بضرورة الصيام، أظنه شعر بذلك حتى من قبل أن يأتيه جبريل ويعزز لديه الفكرة، وتغدو فرضًا تباركه السماء.
كل هؤلاء وغيرهم آلاف البشر مذ بدأت الحياة على سطح الكوكب، فكيف بإنسان اليوم..؟ هذا المخلوق الاستهلاكي بشراهة، إنسان هزيل الروح، غارق في حياة لاهثة بكل ما هو عابر وبكل اللذائذ المؤقتة، أليس أكثر احتياجًا لتمرد يعيد إليه قوته الباطنية المسلوبة. ألسنا أكثر حاجة للصوم من كل الأمم التي سبقتنا..؟
الحياة الحديثة مليئة بالعلل، إلا أن أكثر عللها فداحة هو هذا العطش الدائم للتملك، الجوع المتواصل للأشياء، وإذا ما كان الإنسان منذ القدم يحتاج لطقس الصوم، فترياق الحياة الحديثة الأول، يكمن هنا، الصوم. نحتاج لثورة مشابهة للصيام، ترافق حياتنا المختلة ونفوسنا المنهوبة. إنها حركة احتجاجية للحفاظ على كينونتنا المتخلخلة، دفاع عن ذواتنا المستباحة، استعادة حقنا في العيش بهدوء وبأقل قدر ممكن من اللهاث المدمر.
"قال صديقي إن الصوم طقس استعبادي" هذا قلب كلّي للمنطق، إنه عكس ذلك تمامًا، ليس الله هو من يستعبدنا، لا حاجة للآلهة بهذا السلوك، نحن من نفعل ذلك بأنفسنا، الإنسان هو من يخلق أدوات عبوديته، الحضارة هي من تبتكر كل يوم أكثر مقترحات لمضاعفة خضوعنا لها.
أنت لا يمكنك أن تكون عبدا لروحك حين تصوم، الصوم قرار ذهني، نشاط روحي وليس من خصائص الروح أن تستعبد أحدًا، إنها ليست قيدًا، بل نقيض القيد. إن كنت مستعبدًا، فأنت عبد للمادة، المحسوس هو صنمك المقدس وحتى حين تختاره بإرادتك وتذهب إليه بكامل حريتك، فأنت عبد له.
على العكس من ذلك هي فكرة الصوم، حتى حين تصوم استجابة لمقترح الله. فالله يمنحك الحرية، يضع مقترحه لك، رفقة بك، عبوديتك لكل ما هو مطلق ومتعالي، استجابتك لمقترحه، هو ضرب رائع من الشجاعة الحرة، نابع من قناعة ذاتية، علاقة بطولية بما وراء اللحظة العابرة، تطلّع نبيل لاجتياز حدود المكان.
لا معنى أخر لعبادة الآلهة، بما في ذلك الصوم، سوى أنها نوع من التدريب الجسور على الحرية. ورمضان حرية، نضال للحد من تغول الحياة الحديثة وكبح للإنسان من افساد نفسه وتدمير أخيه الإنسان. الصيام، بوصلة لضبط المسار، مسار الحياة بكاملها، ليست دعوة للتخلي عن مشروع التقدم ، بل مراجعة له ثم مواصلة التحرك بهدوء ورشد وعبقرية، بعقل متحرر من الغرور الفج وروح ساكنة بلا كآبة. وهذا ما يعدك به الصوم كفكرة حكيمة، قبل أن يكون فرضًا وعبادة.
كل عام وأنتم أحرارا من قيود الحياة، شهوة الحاجة، طباع الامتلاك والاستهلاك..بلا هدف ولا غاية.