مقالات
عن الفرح الهش..كرة القدم نموذجاً
حياتنا مجدبة من الأفراح، والناس لا يستطيعون الحياة دون فرح، دون نصر، وللدقة دون أمل. وهذا الأخير شعور أكثر الحاحًا من غيره. يحتاج الناس لنصر؛ كي يفرحوا، ويحتاجوا أن يفرحوا؛ كي يحاصروا يأسهم. على أن اليأس ليس نقيضًا للفرح، لكن الفرح مؤلد للأمل. يهبك الفرح احساس بالقدرة على القفز، إنه محرض لتجاوز القيود، مباغتة الهموم وازاحتها ولو مؤقتًا. حين تفرح أن تعقد هدنة مع مصادر القلق، تحتال عليها وتمنح نفسك فرصة للتفكير بالغد دونما تهديد يخفض قدرتك على تصور مستقبلك كما تحب.
ميزة الفرح الحرية، ومشكلة اليأس أنه يتجاور مع الشعور بالعجز وذلك قيد. لهذا ربما أن الناس يميلون لأي مصدر فرح؛ ولو كان فرح هش. يراهنون عليه؛ كي يفتتحوا مساحات ممتدة أمامهم، ويتشبثون بما يمنحهم من نشوة دون أن يحتاطوا منها، مما يمكن أن تخلفه من شعور مناقض. وذلك هو الفرح العائد من صخب المباريات. شاهدنا كيف أن الناس علقوا آمالهم على فوز منتخب عربي ووصوله للنصف النهائي من كأس العالم. كانوا فرحين، كنت فرح مثلهم وخائف. سأتحدث هنا بلغة ذاتية فهي أقرب لجوهر الفكرة. نحن نتحدث عن عواطف، وفي العاطفة أن تكون ذاتيا في لغة الحديث ذلك أفضل من حديثك الموضوعي عنها.
فاز المنتخب السعودي، على منتخب الأرجنتين، فهاجت أفراح الناس، وكنت مثلهم مغمور بالغبطة، وفي نفس اللحظة، كانت فكرة موازية تحوم في داخلي. تجاور شعور الفرح مع نقيضه، والمشاعر قد تتجاور كثيرًا، بل إنها تولد من بعضها، فكل فرح عميق يساوره قلق عندما تصل للحافة منه. كنت فرح وخائف، وكان هذه الفكرة تدور بشكل ملح داخلي:
كنت خائفُ من طريقة فرح الناس، ليس فرحهم لتلك الليلة، بل وكلّ فرحة مشابهة. هذا الفرح الصاخب والمؤقت؛ لطيفُ بقدر ما هو خادع وعليك أن تحذر من اتخاذه مرتكزًا للسعادة. أود لو بوسعي أن يُدرِّب البشر أنفسهم على الفرح بطريقة مختلفة. أن يؤسسوا بداخلهم مصادر فرح ثابته، يتحصنوا من التعاسة بالمباهج الأصيلة والموثوقة.
من الأشياء المنذرة بالخطر لديّ، مراقبتي للأفراح الهشة لدى البشر. إنهم سعداء الليلة وفي الغد ستجدهم يستيقظون بمشاعر باهتة، احساس ما بالخيبة. هذا أمر موجب للحيطة. هو ليس توجسًا من اللحظات البهيجة؛ لكنه رغبة بفحصها. فقابلية الناس للفرح الهائل والمفاجئ، لا يوحي بطمأنينتهم؛ بل يريك مستوى انكشافهم الداخلي، كم هي حياتهم قابلة للاهتزاز بين لحظة وأخرى. ومثلما هي مستعدة للهياج المباغت نحو الفرح، هي تملك ذات القابلية للتحطِّم في اللحظة التالية. لا يمكن أن تكون الحياة بهذه الصورة صائبة، هناك خلل ما في طريقة تدبير حياتنا الداخلية. هذا الخلل هو ما يجعل حياتنا مكشوفة، وعالمنا الداخلي عرضة للتهديد من أتفه الأشياء.
إذا أردت أن تتأمل مستوى صلابة العالم الداخلي لإنسان ما؛ انظر في مصادر سعادته، ما الذي يُبهجه وما الذي يجعله منطفئًا ومكدر المزاج. الشخص الذي ينفعل بصورة سريعة وصاخبة من أبسط الأشياء؛ ثم يتعكر مزاجه من أي حدث أخر معكوس. هو شخص منسوب أمانه الداخلي، عوامل ثباته الوجداني غير موثوقة. لا يعقل أن يكون حدث ما خارجك قادر على زعزعتك بتلك الصورة. لاعب كرة قدم مرر كتلة بلاستيكية في شباك المنتخب الذي تشجعه، فإذا بك تشعر باحباط وكأن السماء هبطت على الأرض.
العالم الحديث، أفقد الإنسان مصادر الطمأنينة الراسخة ومنحه بدائل لحظية، أفراح هاربة ومناسبات عرضية، تضخ بداخله سعادة فورية، مشاعر شديدة الإلتهاب؛ لكن زوالها وشيك. ما إن تتلبسها يكون تلاشيها قد ابتدأ ثم تتركك فريسة لخواءك مجددا.
يشير لاكروا في كتابه" عبادة المشاعر": أن نمط حياتنا الحديث يسلبنا القدرة على التأمل، وعلى اعتناق المشاعر طويلة الأمد، فنحن نبحث دوما عن مزيد من الإثارة والاهتزاز والغضب، وننفر من الهدوء والتأمل والخشوع. يظهر هذا بوضوح في ثقافتنا الاستهلاكية اليومية: سرعة، تقلب، مؤثرات صادمة، ألعاب فيديو مهيجة، عروض باهرة، سباقات خطرة، رياضات عنيفة، أنشطة صاخبة، مغامرات مجنونة، عنف، وحالات من التغير الفوري للوعي والمشاعر. كيف يمكننا تحقيق الاستقرار النفسي ونحن نبحث دون توقف عن المواقف الخارجية المولدة للأحاسيس القوية؟
هناك خطر ما يرافق انفعالاتنا تجاه الأحداث الخارجية_ ومنها تشجيع كرة القدم، كمثال فقط_في الكتاب نفسه يواصل لاكروا توضيح الخلل العاطفي، قائلًا : "حياتنا العاطفية تُعاني من اختلال راجع إلى الإفراط في مشاعر الهياج والنقص في مشاعر التأمل، ففي مجال المشاعر؛ لدى الفرد المعاصر ميول لانتقاء تلك التي تزوده بأقصى الإهاجات، بدلًا من تنمية مشاعر حقيقية. هناك اختلال في طريقته العاطفية في التجاوب مع الخارج ، عواطفه : عبارة عن حركة خارجية وليس عن خشوع داخلي، انفعالات مربكة وليس عن تأمل، إنها تجري كمسلسل من الصدمات، بدل الامتداد في شكل هادئ من الجاهزية، والعواطف المرتبة تجاه العالم".
لا بأس أن تنغمسوا في اللحظة وتمتصوا كل ما فيها من هُناءة وانسجام. غير أنكم ستكونون أكثر تأمينًا لعوالمكم الداخلية حين تفعلون ذلك_تستثمرون لحظات البهجة العابرة_بقدر استثماركم في عوامل سعادتكم الثابتة. هكذا ستكون سيطرتكم على مشاعركم عالية. أميل لذلك النوع من المشجعين، أولئك الذين يتابعون حراك العالم، كل مظاهر التنافس، وفي أعماقهم مسافة آمنة، ينفعلون مع الحدث بكل قواهم، وفي النهاية ينسحبون بكامل هدوءهم، حيث النتيجة غير قادرة على اختراقهم. لؤماء، يبتهجون بالفوز بشكل منضبط، لكن الهزيمة عاجزة عن تشويشهم ولا حتى مثقال ذرة.
حصّن نفسك بما هو خالد يا صاحبي. بمصادر معنى أزلية، بقصيدة شعر عالية المجاز، بفكرة ذات دلالة دائمة التجدد، بمحادثة ثرية من تلك التي توقظ ذهنك وتعزز قواك الداخلية، بانجاز يستحق أن تصب معظم طاقتك فيه وتنمو معه. بعمل إنساني نبيل، بساعة تأمل يومية وثابته. بدلًا من لهاثك المبالغ به نحو أفراح الخارج، درِّب نفسك على تنويع مصادر سعادتك الداخلية، تعزيزها وتطويرها وفتح منافذ جديدة باستمرار. بدلًا من تعليق رهانك على ما تتفضَّل به الحياة خارجك من فتات سعادة مؤقتة، جرّب أن تؤسس بداخلك كل منابع البهجة لتضمن عافية وسكينة تفيض بهدوء وتلازمك للأبد. حينها ستكون قادر حين يفوز منتخبك الذي تشجعه؛ لكنك لن تكون مصابا بالخيبة الشديدة حين تنهزم. إنها لعبة يا فتى وليست مصدر موثوق كي تربط عواطفك بها بشكل جاد. فالحكمة تقول: "حصِّن نفسك بما هو خالد" فذلك هو مصدر صلابتك، سكينتك الحقيقية وفرحك الفائض بهدوء وللأبد.
ما أسوأ الوّعاظ لحظات الانكسارات، أنا واحد منهم.