مقالات

عن الكتابة الساخرة في اليمن ودفاتر فضل النقيب!! (1-3)

17/06/2022, 13:34:09

على قلّة الأسماء الصحفية التي اتخذت من السخرية والتهكم أدوات كتابة لعرض أفكارها على جمهور التلقي الورقي خلال سبعة عقود، لكنها تبقى علامات مهمّة في طريق شاق لهذا النوع من الكتابة في اليمن.

 فأحمد شريف الرفاعي، الأديب والصحفي العدني، الذي استخدم السياقات الساخرة في معاركه الكبيرة والكثيرة في صحافة الخمسينات العدنية، هو ذاته القاص والمؤلّف المسرحي والشاعر الذي تغنَّى ببعض نصوصه الغنائية مطربون معروفون في تلك المرحلة، مثل: محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم، وسالم بامدهف، ويحيى مكي، وهو في حضوره الساخر، كان أبا مبكرا لكثير من لاحقيه، وعلى حضوره الرائج في ذلك الزمن، وتالياً انصرافاته الكتابية في فترة إقامته الطويلة في السعودية منذ أواخر الستينات، حيث توفي بحادث مروري وهو على عتبة السبعين.

أصدر عبدالله عبد الوهاب نعمان، في أواخر الأربعينات، صحيفته 'الفضول" - تلقب لاحقاً باسمها- لتكون صوت المعارضة اليمنية بعد فشل حركة 48 الدستورية في صنعاء، فاتخذ من السخرية سلاحاً لتبديد العتمة ومرارات القتل والتنكيل، التي تعرّض لها قادة الحركة، ومنهم والده الشهيد عبدالوهاب نعمان، الذي أعدم في صنعاء ضمن كوكبة من المثقفين والأدباء الذين قادوا الحركة، ومن تلك التجربة المريرة سيتفتق شاعر الوطنية الأكبر، وكاتب كلمات النشيد الوطني، ومن داخله  سيتفجر أيضاً بركان العاشق الذي صار مع الوقت عنواناً مهماً في معظم أغاني الفنان أيوب، التي خاطبت قلوب العشاق وأفئدتهم..

قبيل الاستقلال بقليل، أصدر في عدن الصحفي سعيد علي الجريك صحيفة "الصباح"، واستخدم صاحبها لغة تهكمية وقاسية في مقارباته المتعددة للأوضاع في المستعمرة عدن، فما كان من السلطات الاستعمارية سوى إغلاقها، فلم يجد الجريك أفضل من تصوير نفسه وبفمه قفل كبير، صار مع الوقت رمزاً لكل حالة تعسّف ومصادرة تقوم بها جهات الرقابة وأجهزة الأمن ضد الصحف والصحفيين؛ وحين انتقل إلى الحديدة، مطلع السبعينات، صارت الصحيفة صوتاً ساخراً وقوياً لبسطاء تهامة، وكثيراً ما تعرّضت للإيقاف بسبب تناولها قضايا كان يُجرَّم أمر مقاربتها في ذروة التشدد الأمني في المدينة، التي نشطت فيها الأحزاب القوى السياسية بشكل لافت في تلك المرحلة، مما استدعى نشاطا موازيا لجهاز الأمن لملاحقة واعتقال الحزبيين.


صاحب عمود "كركر جمل" في صحيفة الأيام، عبده حسين أحمد، واحد من آباء الكتابة السياسية الساخرة في اليمن، وبرغم استحالة "كركرة الجمل" واضحاكه كما يذهب الاستدراج الشعبي إلى التهكم، إلا أن عموده الذي بدأه في وقت مبكر من الستينات في فترة إصدار الأيام الأول في عدن، واستعاده بعد إصدارها الثاني في مطلع التسعينات وهو في سن متقدمة قليلاً، كان من قلائل الأعمدة المفضلة للقراءة بلهجة أهل عدن المحببة.   

حينما أصدر الأستاذ صالح الدحان صحيفة "البورزان"، في مدينة صنعاء، مع تباشير الوحدة كان يتكئ على إرث كبير من السخرية التي كانت عنواناً لتمرده و"بويهميته" الرفيعة، التي تأسست على جملة من القناعات السياسية التي شكّلها على فوائض التمردات الشابة لجيل الاتحاد اليمني منتصف الخمسينات التي تُوجت بإصداره أول مجموعة قصصية في اليمن في العام 1956، والمعنونة  "أنت شيوعي"، التي حملت الكثير من سياقات التهكم والسخرية، ثم بمزاملته لجيل التمرّد في كلية عدن في الفترة ذاتها، قبل أن ينحو منحى ماوياً في السياسة، التي أخضعها أيضاً لنزوعه المتمرد، حتى وهو يعمل في مكتب شؤون الوحدة في الثلث الأول من السبعينات.

 بقى عموده (ديك الجن اليماني)، في صحيفة 26 سبتمبر في الثمانينات والتسعينات، واجهة مهمّة  للكتابة الساخرة.
الأديب الروائي والكاتب المسرحي والمؤرّخ في قضايا المسرح والفنون سعيد علي عولقي، شكل منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي ظاهرة في الكتابة الساخرة، وبقي عموده الذائع في صحيفة التجمع والمعروف بـ"شقلبان" ولُمَّ لاحقاً في كتاب أسماه "شقلبانيات" واحدا من الأعمدة المفضلة لدى جمهور صحيفة "التجمع"، التي أصدرها عمر الجاوي في عدن سنة الوحدة الأولى.


إبراهيم حسين محمد (إبراهيم الباشا) واحد من كُتّاب السخرية المميزين في اليمن، بقيت أعمدته في صحف "صوت العمال" قبل الوحدة، و"الأسبوع" و"التجمع" بعدها تشير إلى القدرة الفائقة في إنتاج الأفكار بقليل من الكلمات، ولم يزل الكثيرون يتذكرون ما كان يكتبه تحت توقيع "عبده قاسم" في "الأسبوع"، وبسببه تعرّض للاعتقال من قِبل جهاز الأمن السياسي، الذي عرَّضه للإخفاء لفترة قبل أن يتم الإفراج عنه مع زميله عبدالرحيم محسن.


كان القراء ينتظرون الإصدار الأسبوعي لصحيفة "صوت العمال" من أجل قراءة العمود القصير الباذخ للكاتب عبد الحبيب سالم مقبل (الديموقراطية كلمة مُرَّة)، الذي جمع فيه بين فنون الكتابة المكثفة الساخرة ووضوح الأفكار المطروحة في معالجة اختلالات الخطاب السياسي وممارسات الطبقة الحاكمة التي اقتسمت الوظيفة العامة في الفترة الانتقالية لدولة الوحدة.


وصار الكاتب مع هذا العمود نجماً سياسياً لامعاً، حملته أصوات الجماهير إلى مقاعد مجلس النواب في أول انتخابات تعددية في اليمن بعد الوحدة في أبريل 1993م، قبل أن يقدّم استقالته منه بعد حرب صيف 1994م، ويتوفى بشكل مريب.


حينما انتشرت الصحافة الورقية، في سنوات الوحدة الأولى، بسبب متلازمة التعدد السياسي وحرية الصحافة، كان هناك كاتب واحد يطارد كتاباته الساخرة الكثير من جمهور القراءة في صحيفة "المستقبل"، وتحديداً عموده الأسبوعي "حنجرة الشعب"، الذي كان عبارة عن لقاءات عفوية مع شخصيات شعبوية وهامشية تبدي آراءها وقناعاتها في التحولات السياسية في البلاد بلغة ساخرة وساحرة جداً.


أما الكاتب فهو الشاعر والأديب عبد الكريم الرازحي، الذي أصدر هذه الحوارات لاحقاً في كتاب بالعنوان ذاته (حنجرة الشعب)، قبل أن يلحقه بكتاب ثانٍ نال نصيبه الكبير من الشهرة، وهو كتاب "قبيلي يبحث عن حزب"، وبعده كتاب "حكومة الحصان ووصايا الحمير".


في صحيفة "المستقبل"، خلال الفترة نفسها أيضاً، سيكتشف القُراء الوجه الآخر والساخر عند الفنان والمهندس والشاعر عبد اللطيف الربيع، الذي كان يحرِّر زاوية متفرّدة تحت عنوان "شر البلية"، ويوقعها تحت اسم "مهموم الغلبان"، جمع فيه بين الكاريكاتير والنكتة والسياق الحكائي الساخر.


وفي الصحيفة ذاتها أيضاً، بدأ الكاتب الصحفي نعمان قائد سيف الكتابة وبلغته الساخرة والمتهكمة في عمود ثابت في الصحيفة كان عنوانه "بالمقص"، قبل أن تصير كتاباته حاضرة في صحيفة "الشورى"، التي رأس تحريرها أواخر التسعينات، وصحيفة "التجمع"، التي كتب عمودين عنونهما "هدرة" و"ضرار".

منذ كان ينشر عموده بأخيرة "صوت العمال" تحت عنوان "نصف عمود"، منذ أواخر الثمانينات، وحسن عبد الوارث الصحفي والأديب المعروف لم يزل صامداً في كتابة عمود أسبوعي على الأقل في الوسائط المختلفة، بلغته الرشيقة والمقتصدة، التي تحمل كماً هائلاً من السخرية الفارهة، التي تجد في الشأن العام نصَعَها الدائم.


تميز الصحفي ناصر يحيى -رئيس تحرير صحيفة "الصحوة"- في وقت من أوقات التسعينات بقلم ساخر متمكّن، وظَّفه كثيراً ضد خصوم تياره السياسي، في إطار المعارك الكلامية الشديدة التي شهدتها تلك المرحلة، قبل أن ينكفئ ويصمت، وهو الذي كان باستطاعته تحرير كاهله من الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي أرهقت قلمه.


أصدر الصحفي الراحل عصام سعيد سالم في عدن، أواخر التسعينات، صحيفة "صم بم" كأول صحيفة متخصصة بهذا النوع من الفن الساخر، لتكون جزءا من التركيم على فن الكاريكاتير في اليمن، الذي تأسس على يد الراحل الكبير عبد المجيد عراسي، الذي عمل في صحيفتي "فتاة الجزيرة" و"الأيام"، خلال الخمسينات، يقول عن الفنان "عدنان جمن" عن هذه المطبوعة إنها "مثلت نقلة كبيرة في تاريخ الصحافة الساخرة، حيث استطاع الناشر عصام سعيد سالم جمع معظم رسامي اليمن بين دفتي تلك المجلة، رغم الظروف المالية المضطربة آنذاك. كنا نرسم بحرية مطلقة والكُتاب الساخرون لا حدود لسخريتهم، جمعت أفضل رسامي تلك الفترة. كانت نسخة يمنية أصيلة من مجلة كاريكاتير المصرية، التي كان رئيس تحريرها وناشرها العبقري مصطفى حسين".


التجارب الشابة الساخرة في الكتابة الصحفية، خلال العشرية الأولى من الألفية، قدّمت نفسها بكثير من الجرأة والتجديد، لأنها كانت في الأصل متخففة من حمولات الصراعات السياسية والاستقطابات السابقة، وخلقت لها فضاءات قرائية بالمزاج ذاته.


كان الفساد السياسي والاستبداد الديني هدفاً لتلك الكتابات التي قاد لواءها نبيل سبيع وفكري قاسم ونائف حسان وأحمد غراب، ومحمود ياسين وجمال أنعم، وصارت مثل هذه الكتابات واحدة من موجِّهات التمرد الكتابي للجيل الشاب.
في الوقت ذاته، كان كُتاب مثل أروى عبده عثمان وعلي سعيد السقاف ومحمد القعود ويحيى السدمي وعبدالله الصعفاني ينشرون بعض النصوص، التي تتخذ من السخرية وسيلة لطرق قضايا يومية ومعاشة في المجتمع.

وهناك أيضاً الكثير من الكُتاب الصحفيين الساخرين الذين أثروا هذا التوجّه، ولم يتسنَّ لي الإحاطة بما كتبوه، وآمل أن تمكنني قادم الأيام من الوصول إلى تجاربهم في الكتابة الساخرة.

كان الغرض من كتابة هذه الإحاطة، في بداية الأمر، إيجاد مدخل قصير لتناول تجربة الراحل الكبير فضل النقيب، قبل أن تصير بهذا المحتوى المتمدد، التي يمكن التركيم عليها مستقبلاً، أما النقيب فهو أحد أقلام السخرية الكبار في اليمن، وسيكون كتابه "دفاتر الأيام" محط التتبع التالي.

(يتبع)

خاص
مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.