مقالات
عن النّعمان وأنّاته ونبوءاته
خلال الأشهر الماضية، تصدرت واجهات المتابعة أخبار النشر والإصدار والجوائز لكُتاب وكاتبات من اليمن، في ردٍ بليغ على أخبار الحرب والتنكيل والألم التي تقدِّم، وبكثير من الضجيج، صورة اليمن مشوّهة ودامية في وعي الآخرين.
مثابرة وإصرار المبدعين اليمنيين، في هذه الاشتغالات، لا تقول غير إن ثمة حضورا إبداعيا وجماليا نوعيا مختلفا، ينبغي أن يبرز ساطعاً خارج فوائض الحرب واستقطاباتها الفجّة، وأن هناك يمناً أخضر يتخلَّق من جديد، كتاريخ ورموز وإرث ثقافي، في وعي مبدعيه وأفئدتهم، وليس جحيماً تاماً يوقده، بدم الضحايا، تجار الحروب والمستنفعون من الطائفيين والقرويين والجهويين في شمال اليمن وجنوبها.
بين يديَّ أحدث إصدارات الأستاذ عبد الباري طاهر (أنَّات ونبوءات – في رسائل الأستاذ النعمان)(*)، الذي يصير في توقيت إصداره، وبمحتواه التوثيقي المهم، رد اعتبار جليل لواحد من رموز اليمن المعاصر، وأحد ملهميه الكبار، وصانع قضية أحراره بلا منازع.
كنتُ قد كتبت ذات مرة في قضية "التنوير وأسئلته في اليمن خلال القرن العشرين"، عن الأستاذ النعمان:
"في العام 1937، أصدر الطالب الأزهري أحمد محمد نعمان كتاب 'الاَّنة الأولى'، الذي عُد أول مطبوعة في أدبيات الأحرار اليمنيين، متميّزة على مستوى مرحلتها الوطنية (التنويرية)، كما يقول عبدالودود سيف، وقدم فيها رؤية مبكّرة حول بعض جوانب التاريخ الاجتماعي لليمن، و'شرحا لأسباب الهجرة وأشكال اضطهاد الرعية باستخدام الإمامة أساليب 'الخطاط' و'التنافيذ' و'التخمين' في تحصيل الضرائب" - حسب الدكتور أحمد القصير- التي جعلت المئات من الفلاحين - من اليمن الأسفل- يفضلون الهجرة إلى عدن وساحل أفريقيا الشرقي، وموانئ ومدن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، هربا من هذا التعسّف.
الأستاذ أحمد محمد نعمان بدأ حياته معلِّمًا في مدرسة "ذُبحان" مطلع الثلاثينيات، بعد عودته من مدينة 'زبِيد'، وكان لم يزل مشدودا للتعليم التقليدي، الذي لم يبصر الأشياء ويسائلها، لا بمدركات المسلّمات العتيقة البالية التي عشّشت في وعيه. هذا المعلم الآتي من حاضنة ثقافية محافِظة وتقليدية سيتحول، بعد سبعة أعوام، إلى قائد بارزٍ في حركة "الأحرار"، التي تشكلت في عدن في العام 1944، وكان أكثرهم إيمانا بالعلم كمدخل للتحوّل؛ لأنه رأى، خلال رحلة تعلّمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد، وأتمّها في الأزهر أواخر الثلاثينيات، أنه لا مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه إلا بالعلم.
قضى النّعمان سنوات كثيرة في تعليم الآخرين، ابتداء من عمله في مدرسة "ذُبحان الأهلية"، حيث عاش الصدمة المعرفية الأولى مع الأستاذ محمد أحمد حيدرة. وحين قرَّبه الإمام أحمد، حينما كان وليّا للعهد في تعز، أوكل إليه تدريس ابنه البدر، وإدارة المعارف.
وفي حجة، حيث كان مسجونا بعد فشل ثورة 1948، أنشأ "المدرسة المتوسطة" لتعليم الأطفال، أما في ندائه للشعب اليمني لدعم إنشاء "كلية بلقيس"، التي افتتحت في العام 1961، في الشيخ عثمان بعدن، كان قد صار في مرحلة متقدّمة من الوعي، حين قال:
"لا بد أن تُعدّ مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة، تعي جيدا أحوال شعبها، وتدرك المهالك التي طُرح فيها بالمواطنين"، لهذا عُدّ النعمان مثقّفًا عضويّا "اتخذ التعليم مدخلًا للإصلاح السياسي، ورأى أن تنوير العقول هو أساس تطوير المجتمع والإنسان"، كما يرى هشام علي في كتابه "المثقفون اليمنيون والنهضة". ينظر منصة خيوط
كتاب 'أنَّات ونبوءات' أقرب ما يكون إلى معاينة فاحصة لبعضٍ من رسائل النّعمان، التي صارت في الذاكرة التاريخية شاهدا حقيقيا على بعض من أحوال اليمن في وقتها، ويمتد تأثيرها إلى اللحظة الراهنة لما انشغلت به من قضايا ذات صلة حقيقية بحياة اليمنيين، ولم تزل تتجلى، هذه القضايا، في حياتهم وإن بلبوسٍ جديدة.
يقول طاهر عن صاحب "الأنَّات والنبوءات":
"كان ذا بصيرة نافذة، وعمق خبرة بالحياة والناس، والملمح الأهم أنه كان مدنياً ديموقراطياً، وإنسانا مسالماً بكل المعنى. ولعل بُعد نظره وخبرته بالحياة والناس، واستشرافه آفاق المستقبل هو ما جرَّ عليه وألَّب أكثر من طرف سياسي حتى من رفاقه الأحرار. فقد كان الرجل من أكثر الزعامات السياسية العربية بُعداً عن العنف وإيمانا بالتغيير السلمي والتطوّّر الديموقراطي" ص13
غير أن هذا الإنسان المسالم يتحوّل إلى صوت مجلجل بالحق لا يخاف إن أبصر ما يسوؤه، وسُجِّلت له الكثير من المواقف "فكما وقف في وجه طغيان الإمامة والإمام، وتحديداً يحيى، وابنه أحمد وقف في وجه الزعيم العربي جمال عبد الناصر، منتقداً وبشجاعة فساد ضباطه الكبار في اليمن، وحتى رفاقه عامر والسادات، وهو ما ألَّب عليه الجميع، وجعله هدفاً لجميع السهام" ص 17.
وقف ضد ثورة 'خولان'، التي تزعمتها مجموعة من المشايخ مطلع الستينيات، وعوضاً عن ذلك دعا إلى تأسيس " كلية بلقيس" في عدن، لتتيح للأطفال اليمنيين اكتساب العلم، بدلاً عن العيش في حالة جهل مستديمة، ولم يكن موقفه ذا بعد طائفي كما حاول خصومه الترويج لذلك، لكنّه "بحسّه الرفيع وإداراته العميقة كان يرى أن تغيير الإمام بالشيخ أو العسكري عبثٌ لا طائل من ورائه. فالشيخ زعيم القبيلة جزء رئيس من تركة التخلف والجهل المسلَّح، كما أن القبيلة الثائرة سرعان ما تعود إلى أحضان ولي الأمر، بعد أن تحصل على فتات الزكاة وعوائد الإتاوات والفيد" ص 16..
أنَّات النعمان لا تُحصى، ولخَّصها في أسطر قليلة من رسالته إلى رفيق دربه في النضال، وأمينه المؤتمن الحاج عبدالله عثمان، والمؤرخة في 11 نوفمبر 1982م، حينما تقدّم إليه الأخير، طالباً منه تقديم مذكراته الشخصية، التي كان قد أعدّها للنشر:
"لقد امتدّ بنا العمر إلى جيل يستكثر علينا مجرد الحياة، جيل لا يرحمنا، ولا يقدِّر ظروفنا، ولا السنون التي مرّت بنا، ولا الأهوال التي طحنتنا، ولا الآلام النفسية والجسدية التي أنهكتنا وأرهقتنا، ولا المصائب والنكبات التي نزلت بنا، جيل لا يدرك أننا نتجلد ونصبر ونعاني ونضحك وصدرونا مشحونة بالأحزان، وقلوبنا تنزف دماً.. أُقسم لك أني زاهد كل الزهد في القول والكتابة، وقد نسيت كيف يُحمل القلم، وما كنبت هذه الأسطر إلاَّ وأنا أكاد أنفجر من الهم والغم، داعياً لك بالغفران، ولمن أثار في نفسك الشجون وزرعوا الجنون، وإنِّا لله وإنِّا إليه لراجعون" ص 92، وصارت الرسالة بكل محتواها هي 'الأنَّة الأخيرة'، بعد أنّته الأولى التاريخية التي سطرها في العام 1937، وكانت عبارة عن رسالة وجهها إلى الأمير أحمد بن يحيى حميد الدين (الإمام أحمد لاحقاً) لخّص فيها معاناة اليمني من جور سلطة الإمامة و مظالمها التي لا تحصى:
"يا صاحب السمو:
من ينكر اليوم أن في البلاد مظالم يجب أن تزول، وفقراً مدقعاً يجب أن يعالج، وعطالة تملأ السهل والجبل في حاجة إلى مقاومة شديدة، وأمراضاً فاتكة في الأخلاق و النفوس وثروة مهملة لا ينتفع بها أحد، واحتكاراً للمناصب، والوظائف، وتكالباً على ذلك حتى غدا كبار الموظفين عبارة عن مديري شركات تجارية والوظائف سلع تُعرض للبيع والشراء" ص96..
بعد أكثر من ثمانين عاماً من كتابتها، لم تزل 'الأنَّة الأولى'، وبقليل من الكلمات تختصر حال اليمنيين، مثلها مثل بقية الرسائل النعمانية التي وثقها الكتاب، ووجهها لعبد الرقيب عبد الوهاب، ولولده محمد، وللقاضي عبدالرحمن الارياني، والتي في واحدة منها رأى طاهر نبوءة حقيقية، لاستشرافها المستقبل المعتم لليمن، من خلال الوضع المزري لمدينة المخا، الذي أبصره النعمان في العام 1970م، حينما زارها وهو رئيساً للحكومة:
" وها هي رغم الخراب والدمار يبلغ إيرادها من الميناء والجمرك ما يقرب من مليوني ريال شهرياً تذهب كلها إلى خزانة الدولة دون أن تستفيد (المخا) من هذا الإيراد ما يعالج مريضاً، أو يعلِّم جاهلاً، أو يطعم جائعاً، أو يبني خراباً، وقد أشرف هذا الميناء على الزوال، وأوشك أن يغلق في وجه السفن التي ترسو فيه بسبب الرمال التي تراكمت لعدم الصيانة والتطهير، وحالت دون وصول السفن التي اعتادت الوصول إلى الميناء" ص 54..
(*) مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ومنتدى النعمان الثقافي للشباب - الطبعة الأولى 2021