مقالات
عن "إيكهارت تول" وقوة الآن
ليس لك من الزمن سوى هذه اللحظة. "الآن" هو كلّ شيء. يُقال إن الزمن وهم عقلي، مفهوم مجرد في الذهن، وما من شيء في الواقع اسمه الزمن. هكذا وبكل بساطة، الماضي لا وجود له، والمستقبل لا وجود له أيضًا. أما الحاضر، فهو متكثَّف في اللحظة وحسب. غير أنّ البشر يعيشون إما مثقلين بالماضي أو مهمومين من المستقبل.
هذا التمزّق الذهني هو ما يجعلهم غير مدركين للقوة الكلية لوجودهم؛ وهي قوة تكمن في هذا الذي اسمه "الآن".
في كل الفلسفات والآداب والأديان، تجد فكرة تكاد تكون موحّدة. إجماع شبه كلي يقول إن اللحظة هي كل شيء. أي لحظة أنت فيها هي كنزك الأساسي، وكلّ ما تملك. إنها مفتاحك للتحرر من الماضي وللسيطرة على المستقبل. وكلّ معاناة تقع فيها هي نتاج انفصالك عن اللحظة التي أنت فيها. وكلما زادت الفجوة بينك وبين لحظتك، تضاعفت هجمة الماضي عليك، وتمكّن المستقبل من السطو على ما تبقى منك. وحينها تفقد زمنك كله، وربما تفقد السيطرة على وجودك بالكامل؛ لكونك وقعت أسيرًا للذاكرة، مستلبًا لشيء في ذهنك، ومُفرطًا بأثمن ما لديك وهو لحظتك الحالية. بلغة إيكهارت تول (قوة الآن)
يعتقد الناس أن القول: " عش لحظتك" تعني التفريط بالحياة وتدبير معيشتهم. وهذا فهم سطحي للمعنى. فالمقصد كيف تهب وجودك كله لكل لحظة أنت فيها، سواء كنت تعمل في منجم للفحم أو تقرأ مقالة، ترعى مواشيك في الجبال أو تُدير بلادًا وتقعد على كرسي الملك لتدبير أحوال العباد ومصائر البشر. عليك تركيز انتباهك على اللحظة التي أنت فيها، وأن يكون حضورك كله، كامل قواك مُستجمعة، وطاقتك في حالتها القصوى منصبّة على الآن، ولا شيء منك خارج ما تقوم به.
يتحدث مؤلف كتاب "قوة الآن" بشكل دقيق عمّا يعنيه بمفهوم اللحظة، ويعتبرها الحل السحري لحالة الشتات الذهني والمخاطر النفسية كلها. إنها فكرة إذا تمكّن الإنسان من الوعي بها بشكل عميق فسوف ينجح في تصعيد قواه إلى حدها الأقصى. ذلك أنّ ما يعيق البشر من عيش حياتهم بصورة إبداعية وخلاقة، هو فقدانهم للنباهة، ووقوعهم أسرى لسلطة الزمن، وعبء ذاكرتهم بكل ما تحويه من حمولة نفسية ومخاوف طوال تجربة حياتهم.
يحاول المعلم الروحي الشهير "إيكهارت تول" تدريب البشر على إعادة اكتشاف الحياة بعيدًا عن كل ما يفهمونه حولها. يود تحريرهم من الأفكار، وينظر للتفكير المتواصل بأنّه حالة إدمانية مرضية. وهو هنا يلتقي مع نيتشه، فالأخير يقول: كان البشر في أزمان ماضية لا يفكرون إلا حين يكونون في مواجهة مباشرة مع قضية أو مشكلة تستدعي ابتكار مخارج جديدة وتشخيصا مختلفا يفرضه واقع اللحظة. أما الآن فقد صار العقل البشري يعيش حالة من النشاط المتواصل، وهو خطر يتهدد طاقاته، وليس مزية كما قد يعتقد البعض.
إن اللغة، التي في ذهنك، ليست هي الحامل النهائي للحقيقة، أو حتى حقيقة ما أنت عليه. لهذا السبب، ينصحك المؤلف، أمام أي شعور تمر به أو حدث يقع لك، أن تراقب الموقف دونما مسارعة لتوصيفه، وحرمان نفسك من الوعي الكلي به.
فالإنسان مخلوق ينطوي على تعقيد هائل، وهناك احتمال أن ما تشعر به، أو تفهمه مما يحدث لك، قد لا يكون صحيحًا. وما عليك سوى أن تنفصل عن كل شيء، ثم تعيد فهم وجودك بشكل مختلف عما تراكم بداخلك.
لعلّ الفكرة المركزية لكتاب "قوة الآن" هي محاولة تفكيك "الأنا" بكل ما تُمثله من تشابك خطير مع كامل أحداث الحياة. ف"الأنا" بحسب المؤلف هي مصدر كل التلوثات في الوجود. ولو تمكّن الإنسان من تحييد "أناه"، لتوصل لوعي خطير بأن كل ما يحدث له ليس أمرًا شخصيًا. حينها سيتعامل مع الحياة برحابة أكبر.
أنت لستَ اسمك، لستَ مهنتك، لستَ عائلتك، كل روابطك بالحياة ليست هي جوهرك، إنها بعض تجلياتك في العالم، وليس عليك تعريف وجودك انطلاقًا من هذه الأيقونات. إنك بحاجة إلى عدم التماهي مع كل ما كنت تعتقد أنه أنت.
كل ما فعلته منذ ميلادك حتى هذا اليوم، كل ما قلته، هو ليس أنت. ولكن ما هذا الذي هو أنت..؟ يقول المؤلف: إنك الوعي الصافي، أنت كينونتك العميقة المطمورة خلف كل هذه الحجب، وحين تنجح في إزاحة كامل الحجب العقلية والنفسية والواقعية، سوف تعانق جوهرك الصافي، وتتعامل بخفة وحرية، وبشكل خلاق مع وجودك كله.
الخلاصة:
لا يمكن القول إن كلّ من سيطّلع على الكتاب سوف ينجح في اعتناق الفكرة، أو تطبيقها فورًا، وبمستواها الكامل. غير أن قليلا من الصبر والتمرّس سوف يساعدان الشخص، مهما كان مستواه المعرفي، على الإحساس بجدوى الفكرة، وبإمكانية تجسيدها بعفوية كاملة.
قد يشعر بالعجز عن اعتناق فكرة كهذه، أو حتى الاستفادة منها. وغالبًا ما يكون هذا حكما مسبقا، لم ينجح صاحبه بأن يمنح نفسه فرصة لتأمل جوهر الفكرة، ومدى اتصالها بحياة أي إنسان.
إنها ليست فكرة مخصصة لفئة من الناس، أو تصلح لبعضهم ولا تصلح للآخرين. فهي ليست طقسًا روحيًا، ولا فكرة ثقافية؛ بل أشبه بلفت انتباه لأسلوب بسيط وتلقائي للتعامل مع كل شؤون الحياة؛ خلاصتها أن يحشد المرء كامل قواه ويواجه العالم انطلاقًا من جوهره الراسخ، وليس أن يعيش أسيرًا للخارج، أو يفني عمره وهو داخل دوامة مختلقة، محكوما بردات فعل دائمة، وجاهزا لخوض معارك لا علاقة لها به.
"قوة الآن": محاولة لتحرير الإنسان من كل قول وفعل وسلوك وشعور لا علاقة له به. إنه مبدأ للحفاظ على طاقات الإنسان من الهدر، وتركيز وجوده في كل ما ينتمي إليه،
والهدف إعادة البشر لأنفسهم، وتحذيرهم من العيش خارج ذواتهم. وهذا هدف يمكن للمرء تحقيقه بحدسه الذاتي، سواء اطَّلع على الكتاب أم لا. فالكتاب في النهاية ليس سوى تنظيم لأفكار يمكن أن يتوصل إليها المرء بتأمله الخاص، ويحياها بطريقته المناسبة.