مقالات
عن تساؤل الهاشميين: لماذا اليمنيون يكرهوننا؟
إذا ما حاولنا تكثيف الحياة، سنقول إنها حزمة مشاعر وانفعالات، إنها خلاصة عاطفية، مهما تجلت بوجوه متعددة، ومهما تنوعت تعاريف الإنسان ونشاطاته، يظل في نهايته مجموعة انفعالات تشتد وتنخفض، لكنها لا تغيب أبدا. هذه العاطفية ليست أمراً هامشياً، بل تكاد تكون نواة السلوك البشري بشكل عام.
يعتقد الناس متوهمين أن العقل هو الحاكم النهائي للحياة، وأن الواقع الإنساني هو تجسيد للعقلانية، فيما الحقيقة أن الحياة تسير وفقاً لما تقرره العاطفة أكثر مما يخطط له العقل. تبدو هذه المقدّمة بعيدة عمّا أود قوله؛ لكنها أيضاً متصلة به.
لعلّ أبرز ما تخلّفه الحروب هو ذلك الميراث المعنوي الصادم، تلك الضغائن المترسبة والإحساس العميق بالغبن. تبدو هذه الحالة سابقة لانفجار الحروب ولاحقة لها، غير أن الضغينة الناتجة عن الحرب أكثر حيوية وأقوى في جاهزيتها للتحول إلى عنف مباشر من الضغائن السابقة للحرب.
قبل اندلاع الحرب، كانت السلالة الهاشمية تدّعي أنها تعرّضت لمظلومية طوال عقود خلّت، وتطالب باستحقاقات كتعويض عمّا تعرّضت له من تهميش وإقصاء، ومع عدم منطقية دعاوى المظلومية العمومية هذه، لكنها تؤسس لمظلومية مضادة. فإذا ما كانت مظلومية السلالة الهاشمية تُحتسب كمظلومية أقلية، فنحن اليوم أمام مظلومية جماعية تغتلي في صدور خصومها، وهم غالبية اليمنيين.
يتجاهل الحوثي كراهية الناس له، ويعتقد أنها مجرد مشاعر لحظية وتنتهي، فيما هو غصب منظَّم، لا يمكن لكل قوى الكون تبديده. يمكن للسلالة أن تواصل الحياة في طمأنينتها الخادعة، ولسوف تحصد يوماً ثمرة هذا التعالي والخدر الذي تتعامل به مع عواطف الناس الساخطة عليها.
من أين تنبع دعاوى الناس بالمظلومية..؟ من تلك العواطف الكامنة لدى قطاع من الشعب، الشعور بالنبذ والتعرّض للإذلال والقسوة والعيش في ظلال الخوف، وكل ما تخلّفه الممارسات القمعية من قِبل طرف ضد الطرف الآخر؛ البداية من هنا. حيث تختمر الضغينة وتفجِّر حرباً، تواصل الضغينة دورانها، وتنتج الحرب ضغينة مضاعفة، وهكذا في سلسلة لا متناهية من الكراهية المستديمة.
هذه المرّة ستكون السلالة الهاشمية ضحية جنايتها؛ إذ يصعب عقلنة مشاعر الناس ومطالبتهم بتقنين كراهيتهم ضد أشخاص بعينهم. فالكراهية مثل الحب لا عيون لها، إنها حالة من الانفجار العشوائي، حيث النار تلتهم كل ما يصادفها في طريقها، ولا تفرِّق بين هدف وآخر.
نزولاً للواقع اليمني اليوم، هناك حالة من الغليان الواسع ضد السلالة الهاشمية باعتبارها تمثل سلطة الأمر الواقع في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية. فالحوثي ليس سوى حامل لواء السلالة، والممثل الأبرز لدعاوى الحق السلالي بالحكم، وتلك كارثة فكرية معروفة وليس هنا مجال نقاشها.
ادعاءات الحوثي للمظلومية كانت قائمة على أوهام أكثر منه حقيقة واقعية، كانت مظلوميّته نابعة من شعوره باستحقاق أعلى من بقية اليمنيين، وليس لأن سلالته كانت مقصيّة من الفضاء العام كليّاً.
صحيح كان هناك ظلم، لكنه ظلم عمومي يتعلق بتردي الوضع في كامل البلاد، والسلالة الهاشمية، إن صدقت دعاواها للمظلومية فيما مضى، فهي دعاوى مبالغ بها، فيما الواقع أن رموزا كثيرة من السلالة كانت حاضرة في كثير من مناصب الدولة، لكنها لم تكن لترتضي موقعها ضمن المجتمع، وظلت تستشعر حالة من الغبن نابع من تصوراتها الاستعلائية، واعتقادها الوهمي بأنها الأجدر باستلام السلطة كاملة، وليس المشاركة فيها مثل كل فئات المجتمع.
واصلت السلالة الهاشمية بزعامة الحوثي تمسّكها بشعارات المظلومية، وحشدت قواها؛ كي تقوِّض كامل أركان الدولة وتهجِّر اليمنيين، وتنفِّذ عملية إحلال كلي لعناصرها في كامل مفاصل الدولة من منصب رئاسة الدولة المغتصب لمدير مدرسة في قرية نائية.
هذا التبجح الحوثي خلق حالة من القهر الواسع والمتصاعد، وراكم شعورا محقِّا بالضغينة الهائلة تجاه كل من ينتمي للسلالة الهاشمية. في الواقع، ليس اليمنيون هم من خلقوا بداخلهم هذه الكراهية تجاه الآخر، السلالة هي من جنَت على نفسها، وعليها يقع مسؤولية التخلي عن بجاحتها؛ لحماية أبناء سلالتها مستقبلًا.
الخلاصة: لا يمكن الاستهانة بعواطف الشعب واعتبارها حالة من العصبية الممقوتة، ولا يمكنك مطالبة الناس بأكثر مما هو في مستطاعهم من التسامح؛ هنا يكون التسامح جريمة ضد الذات. نحتاج لتأسيس دولة ضامنة للتعايش، نعم. لكن التعايش لا يقوم على قسر الناس عاطفيا ومطالبتهم بطمس ضغائنهم بين ليلة وضحاها. الحوثي هو من ولّد هذه الضغينة، وهو من عليه أن يجيب عن هذا السؤال: لماذا يكرهوننا..؟ لماذا هو اليمني محتقن وغاضب وغير مستعد للتعايش مع جماعة صادرت كل عوامل العيش والبقاء على الناس، وتريدهم أن يتقبلوا بها قسرا؛ وإلا فالسجن أو النفي أو الموت قتلا وجوعا هو ما ينتظهرهم.