مقالات

عن حادثة "إحراق القرآن"..

30/01/2023, 06:02:55

قبل أيام وفي السويد، كانت حادثة حرق متطرفين القرآن الكريم. إنه فعل متكرر، فمنذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وهذا الكتاب المقدَّس، يتعرَّض للحرق والتمزيق وشتَّى أنواع السخرية. بالطبع يحدث ذلك بطريقة ساذجة. فعل أشبه بلهو طفولي، ولكنه يتحوُّل إلى حدث صاخب؛ كما لو كان بالفعل محاولة حقيقية؛ لتجريد الكتاب المقدس من قيمته الوجودية. لا أعني بذلك أنه كتاب يتعرض لرفض واسع؛ لكن المقصد أن محاولات كثيرة ومتنوعة تتخذ طابع السلوكيات المستخفة بالمقدسات جرت طوال قرون كثيرة إزاء الكتاب المقدس والمرجعية الأولى في حياة المسلمين (القرآن الكريم)، وصارت بمثابة ظاهرة؛ طابعها العملي هزلي جدا، وصداها متضخم للدرجة التي يمكنه فيها أن يُشعل حربا، ويُسيل الدماء. 

ومع أن كل تلك المحاولات ظلت مجرد حوادث عرضية متفرِّقة، أحدثت فرقعة مؤقتة ثم تلاشت، وبقى الكتاب سارياً بين المؤمنين به، دونما أي أثر حقيقي لكل تلك السلوكيات الطفولية. لكنها ما تزال تحتفظ بقدرتها النارية على إثارة عاصفة من التوتر، وتشحن العواطف نحو مستويات عليا. ما دامت الحوادث سخيفة كما تقول. لماذا يجد المؤمنون بهذا الكتاب أنفسهم في غضب شديد عند كل محاولة صبيانية تحدث ضد القرآن..؟ 

الجواب: من الطبيعي أن تكون ردة فعل الجمهور العام تجاه حرق كتابهم المقدس عاطفية، ويشعرون بالجرح والإهانة، كما لو أن الأمر مساسا بجوهرهم الشخصي وليس استهزاء بأعظم مرجعية مقدسة في حياتهم. ولا يمكنك بحالة كهذه أن تطلب من الجماهير التعامل بطريقة مختلفة. إذ لا يمكنهم التصرف بغير ذلك. فالأمر يتعلق ببنية عاطفية معقدة، ويصعب إعادة ضبطها بسهولة. أعني طبيعة العاطفة تجاه كل ما هو مقدس. 

والحال هذا، مهما كان تصرُّف المؤمنين يفتقد للحكمة. فمن قال إن العواطف تقتضي أن تكون متصلة بالحكمة دائما. لربما لو تأمل الإنسان في معظم عواطفة وراقبها بيقظة عقلية وموضوعية، لربما -والعهدة على ديستوفسكي- تحول لآلة، وربما صار لا يجد مبررا للحقد على قاتل أبيه. فضلا عن الغضب تجاه حرق مجموعة أوراق يقال إن في داخلها آيات القرآن وليس معادلات رياضية. ولأن طبيعة اشتغال العاطفة الدينية شديدة الحساسية بشكلها الفردي، فهي أشد قابلية لاندلاع النيران بأي لحظة، حين تغدو العواطف مركبة. أعني عواطف الجماهير الجماعية. فهي بصورة أشد مبنية بشكل غير عقلاني، وتلك طبيعتها، ولا يمكنك عقلنة العاطفة د، وضبطها وفقاً لأنسب تصرف فردي حكيم؛ ناهيك عندما يصير جماعيا. 

ما دام الأمر كذلك، فما الحل..؟ أنت الآن أمام خيارين: متطرفون ساذجون ينتمون إلى ديانات ومذاهب وقناعات مختلفة كلياً عنك، ويملكون حرية كاملة لاقتناء أي نسخة من كتابك المقدس وحرقها، وحتى دعسها والتبوُّل عليها. وبالمقابل لديك مؤمنون بعواطف مشحونة ويشعرون بالتأذِّي حين يتعرَّض كتابهم المقدَّس لهذا الفعل الحقير. فكيف يمكنك فضّ هذا الاشتباك..؟ 

في الواقع أنت لا تستطيع منع الناس من ممارسة شتَّى أفعال الإزدراء تجاه قناعاتك. حتى لو كانت سلوكياتهم شائنة، وتفتقد إلى التهذيب. وحتى لو كان احتجاجك قائماً على ضرورة احترام المقدَّسات. فهذه قيمة سلوكية يصعب ضبطها. ويصعب إلزام الناس بها. فما هو مقدَّس بالنسبة لك، هو نقيض ذلك لدى خصمك، أو من يضع نفسه على الضدِّ منك. 

وعليه، فسوف يظل الآخر قادرا على إزعاجك، وستظل أنت ذا قابلية دائمة ومتكررة للغضب. فلا الحكومات قادرة على ترشيد هذا السلوك ومنع الصبيان الفارغين من مواصلة طيشهم ضد مقدَّساتك، ولا القوانين يمكنها الحد من هذه الظاهرة؛ بل ولا توجد أي قوة كونية قادرة على وضع حد نهائي لهذا المنفذ المفتوح للتوترات الدائمة. حيث جمرة الاستهانة بالمقدَّسات جاهزة للاشتعال بأي لحظة. 

فما دام الخيار الأول: منع الإساءة متعذِّر؛ فكيف نحاول أن ننتزع من الذين يشعرون بالإساءة قابليتهم للتأذِّي. بالفعل الأمر يبدو بمستوى صعوبة الخيار الأول نفسه. لكنه مع ذلك الخيار القابل للترويض، وبما يعطل قدرة المسيئ على الإساءة، وبهذا يمكننا أن نسهم في تخفيف إمكانية تكرار هذا النوع من الحوادث. ليس إلغاءها كلياً؛ لكن على الأقل؛ تجريد من لديهم نزعة لفعلها من أي جاذبية في سلوكهم هذا، عن طريق ضبط ردة فعلنا تجاه الحدث. 

الخلاصة: لا يمكن لأحد أن يُشعِرك بالإهانة ما لم تمنحه أنت هذه الإمكانية. أنت تشعر بالغضب ليس لأن أوراق كتابك المقدَّس أحرقت، بل لشعورك بأن الآخر يستخف بك، بكيانك المعنوي. لكأنَّه يجردك من أي قيمة، طالما أحرق مصدرك القيمي الأول. بهذه الحالة قدرة الآخر على أذيَّتك ليست حتمية؛ لكن بقاءك عُرضة للاندفاعة العاطفية مع أي صرخة لمهرج، هو ما يجعلك قابلا للتأذِّي. 

أنت مكشوف نفسياً أمامه، وهذا سبب جرحك. أما الآخر فلا يملك أي قدرة أن يجرح روحك، أو يجردك من كيانك المعنوي. ذلك الجزء الحميمي والمقدَّس منك هو ما لا يمكن لأحد أن يمسّه. المقدَّس هو ما لا يمكن لأحد أن يطاله، هو يكتسب قداسته ليس من كونه مخطوطاً بداخل كتاب، ولا لأن كثيرين يؤمنون به. إنما تكمن قداسته في قوة المعنى المتضمِّن بداخله. حتى لو كان معنى مبثوثاً في الهواء، حتى لو لم يكن مدوناً في كتاب. 

وعليه، فكل قيمة قدسية متعالية شيء محصَّن في ذاته، ويفترض أن يكون الشعور المقدَّس في نفوس المؤمنين به حاملا للحصانة المعنوية ذاتها. وبما يؤكد أن ليس بمقدور مجذوب أن يستفز عواطفك المقدَّسة. ما دمت تعرف كيف تغلق منافذك، وترفض التجاوب مع أي مظهر شكلي للهزء بمقدساتك. ذلك أن الرَّب ليس في متناول أحد، ربُّك مصدر قداستك، وما دام خارج قدرة الفعل البشري على أذيَّته، فيجدر بنفوس المؤمنين به أن تكون بالحصانة ذاتها.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.