مقالات

عن حكمة القاع المتجولة بقدمين عاريتين!!

10/02/2023, 13:52:02

مثل كل حديث عابر بين راكبين، في وسيلة نقل عام  يلتقيان أول مرة، قال لي: إن هذا الشعب مكافح وصبور، ويمكن تفجير طاقاته الكامنة، لو أن ضميراً يقود حكامه ونخبه!!

قال هذا الكلام، بتفصيله المجمل وليس بتركيبه السياقي، وبلهجة دراجة تنتمي لألسن أهل الشمال في اليمن؛ وقاله تعليقاً على ما شاهده أثناء وقوف الميكروباص، الذي نتجاور مقعده الضيِّق في جولة مزدحمة، حينما رأى امرأة تقتعد على كرسي، وأمامها طاولة تعرض عليها أنواعاً من المخبوزات والحلويات البيتية بطريقة مرتبة، وبالقرب منها امرأة أخرى تبيع بخوراً مغلفاً بورق القصدير، ومواد تجميلية وعطرية أخرى.

قلت له، ومن باب الاستكشاف بعد أن دلتني ملابسه ولهجته على انتمائه الجغرافي: يعني أن خروج المرأة للعمل مش عيب ولا حرام، كما يقولون؟ وبسرعة  وبداهة وسخرية قال: كلنا نعرف ما هو العيب يا أخي!! وأردف: هاتان امرأتان مجاهدتان بعشرين رجلا يتسولون، هنَّ بكل تأكيد تجريان وراء لقمة غيرهما من أطفال ومعدمين في أسرتيهما، وإلا ما الذي أخرجهما لكل هذه المكابدة على الرصيف المشمس، ولو أن معي مبلغ صغير لاشتريت منهما حباً وليس لحاجة!!

وحينما حاول أحدهم في الخلف التدخل، للتقليل من أهمية كلامه، بقوله إن أفضل مكان للمرأة هو بيتها، وأن الشارع هو مدرسة الرذيلة الأول، وحاول تبرير كلامه بسياقات دينية توحي لمن لا يعرف أنها أحاديث. التفت جاري نحوه بشجاعة، وقال بما معناه إن وعاظ السلاطين وتجار الدين يحاولون دائماً تحميل الإنسان البسيط ظلم لصوصه، وتضخيم الصورة في وعي المتلقين أنهم سبب الكارثة والبلاء، وإزاحتها عن الحكام.

 ثم بدأ بسرد الكثير من الأمثلة عن فضائل المرأة في اليمن، وكيف أنها في الريف، وبعض المدن، جزء من عملية الإنتاج ليس الفلاحي فقط، وإنما الإنتاجي بصناعة بعض المشغولات البسيطة في المسكن، وكيف أن ظروف الحرب والتسلُّط والتجويع قد تعيدها إلى مكانها الطبيعي كمنتجة وليس مستهلكة، بما فيه الكفاح في الشارع.

سيطر "جاري" على النقاش، داخل الميكروباص، بحججه المقنعة البسيطة بدون فذلكات أو تصنع أحاديث، وبلغة هامسة عالية الصدق قال قبل نزوله بقليل: "أصحابنا ضحية المشايخ، وأصحابكم ضحية المتعلمين".

لم أعرف اسمه ولا هاتفه، لأنه اعتذر وبكل لطف عندما سألته عنهما، وكان ببالي تطوير هذا الحديث العابر إلى ما يشبه مادة صحافية تشتغل على القاع المنسي والمطمور الحكيم؟
 (**)

التركيز على مفهوم الضحايا في اليمن، المنقسم اليوم، التي قالها "جاري العابر" بعفوية وبدون تنظير، تقود كل متلقف لها إلى النظر للمشكلة ببُعدها غير السطحي، فالمتعلم عنده - وحسب التكثيف الإيحائي في كلامه يجيء: على صورة القائد الحزبي، وبهيئة الموظف العام  المتنفذ، أو هو النجم المشتغل في قضايا الشأن العام، وهو عموماً الأنموذج الناعم للوعي، وهو باختصار كل  ما ليس له علاقة بالبنية المحافظة الصلبة ووظائفها  في المجتمعات القبلية المغلقة، ومع ذلك لا يوظف هذا المتعلم خبراته المدنية ووعيه من أجل خدمة الناس، وإنما يسخَّر كل شيء من أجل نفعه الشخصي أو الدائرة الضيِّقة المتشكِّل فيها أو المنتمي إليها.

هذا النموذج في مفهوم العامة، الذي عبَّر عنه جاري، غير معوّل عليه في عملية التحول والتغيير وقيادة المجتمع بعد أن صار يوجَّه فعله، ويوظَّف بعيداً عن  المنافع العامة، فسنوات طويلة من الحضور السلبي لهذا النموذج أنتجت هذه الصورة المتهتكة، فصار المتعلم - بتعيناته المتعددة سلفاً- هو موازيا آخر للسلطة بفسادها وقسوتها، مثله مثل شيخ القبيلة، غير المتعلم، الذي لم يزل منتجاً أوحد للسلطة الغاشمة بصلابتها العُرفية في مجتمع قبلي مغلق غارق في تخلفه وعزلته؛ يعمل هو الآخر إما: في خدمة السلطة العامة إن استقوت عليه، فيبذل محاربيه لخدمتها، أو يتغوَّل عليها ويبتلعها عبر أدوات قوته وتأثيراتها إن استرخت وترهلت، ولنا في أنموذجي: الرضوخ لجماعة الحوثيين المستقوية اليوم، وابتلاعها لسلطة صالح المسترخية بالأمس.

السلطة الرمزية للمتعلم -المتعلم هنا قد يكون في سياق تعريفي آخر هو المثقف- في وعي جاري تستخدم لغير وظيفتها المفترض أن تنخرط فيها لخدمة الناس، بل تتسق وتتماهى مع سلطة الشيخ القبلية الفعلية والمؤثرة، في انتفاعها، مع تقاطع حاد في التوظيف، ففي الأولى تنحصر في تكسباتها الفردية في الغالب، وفي الثانية في انتفاع القبيلة العمومي التي يراد بواسطة ذلك أن تبقى صمَّاء بدون اختراق.

يحضر المتعلم باسم المجتمع عموماً ويروِّج لنفسه من موقع المخلَّص، باعتباره مركز المعرفة والدراية، تماماً مثلما يستخدم الشيخ القبيلة -بوصفها مخزن محاربين وحارس أمين للسلطة عبر تاريخ الصراع الطويل في اليمن- لفرض حضورها وديمومتها في حياة المجتمع.

قد يكون كلام صاحبي العابر أوضح من أي تنظير لحالة التكسب والانتفاع، التي تمارسها سلطة المتعلم وسلطة الشيخ، وتشكلان معاً في عموميتهما السلطة العامة التي تدير البلاد بالأزمات والحروب والفوضى، لكنها محاولة لتأويل الحكمة وهي تتجوَّل في قاع المجتمع بقدمين عاريين، لكنها تعي بالضبط ماذا تسلك، وإلى أين ستصل.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.