مقالات
عن واقعة تكريم "حفاظ القرآن" والتنوير العنيف..
في الأيام القليلة الماضية، ثار جدل بخصوص تكريم 500 حافظ للقرآن الكريم، والاحتفاء بهم في مدينة تعز، وكالعادة طابع الجدل أخذ منحًى تسطيحيا وغوغائيا، بل غريب في جوهره، لربما هي المرّة الأولى التي ينفجر فيها هذا النوع من الجدل بشكل أكثر بروزا في بلادنا، كان هناك دائما تململ وهمز ولمز خافت ومتفرّق ومحدود من قِبل أشخاص معدودين، بخصوص النشاطات المهتمة بتحفيظ القرآن؛ لكنه تطوّر هذه المرة ليغدو تعبيرا عن موقفين ورؤيتين، تبدوان على طرفي نقيض، ليس تجاه القرآن أو الدِّين بشكل عام، بل تجاه التصوّر الكلي للحياة لدى الطرفين.
لربّما يكون من المبكّر القول بوجود تيارات يمنية تملك تصوّرات شاملة للحياة، وبشكل فيه تناقض جذري، أو لنقل تضاد كلي في أسسها ورؤيتها العامة، صحيح لا يخلو مجتمع من نماذج وتوجّهات فردية متصادمة في ظاهرها بشكل تأسيسي، لكن ذلك لا يرقى ليتمظهر في تكتلات متمايزة تماماً، وربّما يعود ذلك بشكل عام إلى غياب الحضور المؤسسي الفاعل، والترجمة السياسية للرؤى الكلية، أو حتى فكرياً وفلسفياً، فبلادنا شحيحة في هذا النهج، وعلى كافة المستويات.
لكن بروز جدل حول حدث الاحتفاء بتخرّج دفعة حفّاظ للقرآن، بل والاحتجاج ضد هذه الواقعة، هو أمر فيه من الغرابة بقدر ما فيه من الخفة.
مبدئياً، من حق الناس التعبير عن آرائهم تجاه أي حدث. لكن منطقياً، لا يوجد أي مبرر نظري، من أي زاوية ومن أي مستوى، يمنح أي شخص الحق في رفض الآخر وإدانة نشاطه، بل إن الاعتراض نفسه سلوك يناقض جوهر حرية التعبير، ومؤشر على نوع من الوصاية الفاقدة لأي مسوّغ.
غرابة الأمر أن يأتي شخص باسم التنوير والعقلانية ويمنح نفسه الحق، وفي مجتمع محافظ جدا، أن يحتج على نشاط كهذا، والغرابة ليست في موقف الاحتجاج بل في ما وراءه. فلو افترضنا أن هذا الشخص وصل إلى منصب يكون فيه قادرا على منع نشاطات كهذه، ألن نكون أمام مستقبل مفخخ، باسم التنوير هذه المرّة..؟
هل هذه مواقف مجردة أن تحمل في طابعها توجهاً عنيفاً إاقصاء المخالف؟
تخيلوا معي، كيف يهيج هؤلاء التنويريون حين يخرج رجل دين ويعبّر عن رأيه إزاء حفل فني، لماذا يمنحون أنفسهم الحق في السخرية من حادثة الاحتفاء بحفّاظ القرآن، ثم يغضبون فيما لو عبّر رجل دين عن استيائه من حفل فني؟!!
مع أن المقارنة هنا لا تنحاز لطرف ضد آخر.
وأميل إلى دحض الموقفين، فلا رجل الدِّين مكلّف بحراسة الأخلاق ولا التنويريون يملكون حقاً بالسخرية من حادثة تكريم حفّاظ القرآن.
أما من زاوية وجهة نظر "التنوير العقلاني"، فموقف كهذا هو تعبير عن دوافع تنويرية ذات طابع فوقي وعنيف، وهو تنوير محدود التأثير، بل وعدمي أحياناً. ففي مجتمع ما تزال جذوره الدينية ضاربة في كل مناحي حياته، يكون الموقف الرافض لحادثة الاحتفاء بحفّاظ القرآن، ليس فقط تنويراً يتسم بالعنف، بل ويفتقد للحكمة، ويشتغل بطريقة عدمية في المجتمع.
ليس للأصوات التي تعرِّف نفسها بالعقلانية والتنوير أي نشاط حقيقي تراكمي، ولا تقدم أي بديل فعّال قادر على تقديم تصورات أخلاقية شاملة للمجتمع، كما لا تتوفّر على حضور عملي منافس للتصوّر التقليدي السائد، وكل ما تحوزه في رصيدها مجموعة منشورات في مواقع التواصل، تعتقد أنها بهذا المخزون الفقير تملك القدرة على تأسيس مجتمع بأرقى تصوّر ممكن، فيما هي عاجزة عن خلق تواصل حقيقي مع 5% من المجتمع، وفاشلة في اختراقه مؤسسيا وعمليا، وبطريقة إيجابية ومؤثرة في التصوّر الشامل للمجتمع.
هناك إصرار متعمّد من قِبل هذه "الفيئة" المشتغلة في حقل الفكر والمعرفة على خلق صدامات تعسفية وقسرية، بين المجتمع ذي الطابع المتديّن عموماً وبين قِيم التنوير الحقيقي، يبدو لي أحياناً أنهم يحرسون حقهم باحتكار العقلانية، بواسطة تغذية هذا النوع من التوترات، ولا يهدفون إلى تحرير المجتمع كما يزعمون.
حتى لو افترضنا أنهم يتعمّدون إحداث صدمة للمجتمع؛ كي يحررونه من التصورات المطلقة، غير أن طبيعة منطقهم الذي يقدّمونه ليس فعالاً في سياق كسياقنا، فهم يداومون على التمترس في النقيض دوماً، ويفتشون عمّا يمكن خلق عدائية مجتمعية تجاه ميراث التنوير بكامله. بمعنى آخر، أسلوب الصدمة هنا يدفع المجتمع إلى رفض التنوير بكل ما فيه. فبدلا من تنويع أساليب النشاط بين ما هو جدلي وما يمثل مشتركا عاما بين القديم والجديد، بين القرآن وقيم الحداثة، بين العقل والدّين، بين الفلسفة والعلم والدّين بشكل عام. إذا بالتنويرين في بلادنا يجدفون ضد التيار العام، وبشكلٍ فيه حديّة غريبة.
التنوير العنيف هو صورة نقيضة ومقلوبة للسلفية المتطرّفة، كلاهما يجسدان رؤية أحادية وخطية ونمطية للحياة، ويشتغلان بالميكانيرم نفسه، ويعجزان عن رؤية العالم من منظور تركيبي، وبهذا فجوهر مواقفهم لا يفتح دروباً جديدة في المجتمعات، ولا يؤسسان لمجتمع قابل للتحديث، بقدر ما يعيقان أي محاولة لإصلاح اجتماعي وديني يسهم في تجاوز عقدنا، ويهيّئ الجو لنهضة شاملة.
كلا المنهجين يتعمّدان إبقاءنا في دائرة التراشقات، وكل واحد يحرس قمقمه، وينقب عمّا يعزز فكرته، ويؤمن بأفكار إطلاقية تزيدنا دوراناً في "المعصرة" نفسها، وما من يمني إلا ويعرف "معصرة الجمل" تلك التي تدور حول النقطة نفسها، وعيونها مغطّاة كي لا تدوخ، وتسقط من فرط الدوران.
الخلاصة: في الحقيقة، جوهر الاعتراض، أو حتى السخرية، من حدث الاحتفاء وتكريم حفّاظ القرآن، ليس اعتراضاً ذا طابع فكري في عمقه، وإن تلبّس بذلك، ولا هو اعتراض من وجهة نظر علمانية، إذ لا علاقة للعلمانية المتّزنة بموقف كهذا، لكنّه موقف ذو طابع سياسي، يستبطن فيه أصحابه موقفا من الجهة، التي يعتقد أنها تقف خلف هذا النشاط وتدعمه. وهم إذ يعارضونها سياسياً، ينساقون خلف الموقف نفسه، ويسخرون حتى من نشاطاتها الروحية، وحقها الخاص في التحرّك داخل المجتمع كما تشاء، ما دامت تلاقي قبولاً في سلوكها هذا.
لكن، حتى لو كان الأمر من هذه الزاوية، فلدينا سعة في الأمر، ومن داخل المنطق العلماني نفسه، إذ أن النقاش حول مدى أحقية الدّين بالحضور في المجال العام ما يزال مفتوحاً. لهذا، إذا أخذنا الفكرة إلى مداها البعيد، ولم نقتصر على موضوع تكريم حفّاظ القرآن، بل ذهبنا نحو جوهر الفكرة بكاملها، وما إذا كان من حق الدّين أن يكون له حضوره في الشأن العام أم لا..؟ فالدين في جوهره فلسفة عامة تجاه الحياة، ليس برنامجا سياسيا بالطبع، لكنه يحوي جملة قيم أو مصدرا يشتق منه الأساس الأخلاقي لقضايا الوجود بعامة، بما في ذلك جانبها السياسي.
فإذا ما كان للدّين حق في الحضور العام، فكيف يكون احتفال خاص بحفّاظ القرآن أمراً باعثاً للنقد، وبأي فلسفة أو منطق معرفي أو حقوقي يغدو ذلك أمرا مولدا للتململ..؟
إنه موقف سياسي، وهذا كل ما في الأمر.
والسياسة بتراكماتها وتقاطعاتها تخلط كل شيء؛ كي تستثمره لصالح تشويش صورة الخصم والنيل منه، ولو كان ذلك باعتراضات تفضح التنويري أكثر مما تظهره مدافعا عن العقلانية وميراثها الكبير، وكأن العقل أو العلم هنا آلهة، ومصدر التشريع النهائي، ولا يحق لأي تصوّر آخر أن يتواجد في المجتمع، مع أن مواقفهم ذاتها لا هي علمية ولا عقلانية، بل خليط من التحيّزات والضغائن والتوترات تجاه كل شيء، بحق وبدون وجه حق.