مقالات

غزة تباغت العالم.. تأملات فلسفية على هامش الملحمة

11/10/2023, 07:55:24

لمجرد أن اجتازت أقدام المقاومين حدود قطاع غزة؛ كان فصل من الحكاية قد بدأ. كان مجرد العبور توقيعة كبرى لنصر خاطف؛ حتى قبل أن يُنجَز الهدف وتكتمل الملامح.

نجاح حماس في تنفيذ هجوم بذلك المستوى، الذي ارتج له العالم؛ أشبه بفتح إعجازي، ضربة مُحكمة تقاطع فيها الدهاء بالإرادة الفاعلة، وتمكن من اختطاف نصر حاسم، تفوّق غير قابل للدحض أو المراجعة.

ذلك أن مبعث الشرف هو فكرة حيازة الفعل ابتداء، بكل ما يتضمنه الأمر من دلالة على امتلاك إرادة التحكم بالمصير والبراعة في تحريك الأحداث من قبل الطرف المضطّهد.

لقد تصرفت حماس كقطب أساسي متمسك بموقعه في صدارة المعركة التاريخية بين المحتل وصاحب الأرض. ونجحت في الصعود كما لو كانت ندّا حاز مشروعيته الكاملة كممثل للدولة الفلسطينية، دونما اكتراث لعالم مختل.

غادر الضحية هويته المتكسرة، كطرف ضعيف وعرضة دائمة للبطش، وقرر أن يُجري عملية تبديل شجاع لمواقع الدفاع والهجوم، ونجح فيما هدف له؛ لهذا بدا ما حدث في قطاع غزة ليس مجرد معركة محدودة أو عملية عسكرية ممكنة الحدوث؛ بل فعل خارق، نجاحه يتجاوز ما لدى الفاعل من أدوات. ويحيل لعبقرية تحفظ خارطة العدو، وتملك ما تبرهن به على جدارتها في تقويضه. وعليه يغدو حدثا جديرا بالترميز؛ كنبوغ يتخطى كل الشروط القاهرة. إنه حدث يُعيد التحكم بمسارات سياسية وتحالفات كان من العسير التأثير عليها؛ بمعزل عن الحدث البطولي الأخير، بقيادة حماس.

وبصرف النظر عما يمكن أن يتلو الحدث في غزة. فالمعجزة قد تجلت في مشهد مكتمل البيان، أمام جموع البشرية. نجاح الفعل المقاوم إفصاح عن حق لم يندثر، عن بشر كانوا هناك وما يزالون متمسكين بحقهم في البقاء. إنه لنصر برهن على خلوده منذ اللحظة الأولى، ولا يُمكن لكل تدابير العدو اللاحقة أن تُضعف أثره، أو تخفض من مستوى عبقريته وقوته الإثباتية في عيون العدو قبل الصديق.

ما الذي تدخره إسرائيل من عنف غير مستخدم لمواجهة النصر المحسوم للمقاومة، أو تجريدها من قيمته..؟ لا شيء تقريبا. فمنذ 75 عاما، لم تدخر عصابات بني صهيون أي أسلوب أو وسيلة أو حيلة إلا وجربتها في مساعيها لتطهير الأرض المحتلة من أي روح ترفض مخطط تغيير وجه الأرض وفرض وجود غريب عليها. ولهذا، لم يعد بحوزتهم أي قدرة على إنجاز مباغت، حدث ذو وقع معنوي وتاريخي يوازي الخرق الكبير، الذي تمكنت حماس من إحداثه في جسد السلطة المحتلة.

يمكن للسلطة المحتلة أن تحشد مزيدا من القوة النارية العارية، وتستعرض موهبتها في حرق الأرض؛ لكن هذا سلوك مألوف ويفتقد لأي قوة تأثيرية فارقة، أو قدرة سحرية على إبطال أثر الحدث الأول؛ حدث المقاومة، وهي تُنفذ ذلك الانقلاب التاريخي وتُعيد ضبط الموازين المختلة على ضفاف القدس والمدن المصادرة بالقهر والنار والوقاحة المتبخترة. هذا هو تعريف النصر الذي لا يقبل المحو ولا التشويش.

من الواضح أن سلطة اللصوص الغاصبين للأرض كانت قد باتت مطمئنة كثيرا، ودخلت طورا جديدا من الأمان؛ أمان لص راكم قوة خارقة، وصار يقف على تلة بعيدة، ولا يكاد يرى في المنحدرات سوى بشر تائهين، لا حول لهم ولا قوة، تصعد بهم نحوه؛ ناهيك عن امتلاكهم أي جرأة للتفكير بالدخول في معركة معه. إنها إسرائيل؛ وحش يبدو الكل مُجمعا على نبوغه، فأغلب دول العالم تعترف به، وتتقرب إليه. والحال هذه، ففي مواجهته مع أصحاب الأرض يكفي أن يلتفت الوحش نحوهم؛ كي يختفوا من الوجود.

توهّم المحتل أن الحياة أمر يمكن حيازته بشكل آمن تماما لمجرد امتلاك القوة. ذهب به الغرور حدّ الظن أن افتقاد المقهور للدبابة يجعل وجوده مساويا للحجر، وربما للعدم. لكن القوة بقدر عبقريتها في تأمينك؛ يمكنها أن تكن مدخلا لتقويضك. يقول مؤسس الديانة الطاوية: لا تُبالغ بشحذ المدية؛ فتنثلم".

والمعنى: لا تذهب بعيدا في استعراض القوة والركون التام لها؛ فتخذلك. فالحياة غريبة، ومحكومة بمنطق متداخل؛ يصعب حصره في معادلة واحدة. القبة الحديدية+ الدبابة= الحياة. تلك فرضية كانت قد غدت أشبه بقانون فيزيائي في ذهن المحتل. لكن، ولأن الإرادة البشرية الواقفة على الضفة المقابلة يستحيل إخضاعها لقانون، فقد تمكّن مقاتلو "طوفان الأقصى" عند الفجر من إبطالها.

هذا المُنجز يتخطى النصر العسكري، نحو موقف تصحيحي لمعنى الحياة الإنسانية. فالحياة غير قابلة للاحتكار من طرف قوي ولا مصادرتها عن الطرف الضعيف. القوة مطلوبة للهيمنة، لحفظ الحياة. نعم؛ لكن الحياة فكرة واسعة تتجاوز القوة، وتعمل بقوانين متغيّرة؛ تكاد كل صفة فيها تستحيل لنقيضها.
بوضوح أكبر: هناك قوة كامنة في كل ضعف، يستهين بها الواقع تحت نشوة القوة الفاقد للحكمة. وفي كتاب الحياة الكبير، في مدونة التاريخ الهائل؛ شواهد كثيرة على ذلك. لو أراد نيتنياهو أن يتفقه في أمورها قليلًا.

أقول: إن الأثر المعنوي والأخلاقي فيما قامت به المقاومة يتجاوز تحقيق نصر عسكري كبير وخالد. هناك عوائد أخلاقية أكثر حساسية. لقد نجحت المقاومة في تصحيح تشوهات خطيرة في ذهن السلطة المحتلة وداعميها. بخصوص وزن المقاومة وما يمكنها فعله. وفيما يتعلق بالفوارق بين قيمة البشر في الجهتين. سكان سلطة الاحتلال، وأصحاب الأرض.

ذلك أننا أمام عدو كان قد طوّر خلاصات كارثية في تصوّره لنفسه؛ وصولًا إلى موثوقية كاملة بأنه صار ينتمي لجنس أرفع، مستبعدا قابليته للتقويض، أو حتى إمكانية حدوث أي مساس جوهري بوجوده. من هنا، ينبع أثر حاسم لما قامت به المقاومة. صدمة للمحتل، علّها تُذكره ببطلان أوهام التفوق، وبالتوازي بثت اهتزازة جديدة في العقل الغربي الداعم له، أعادت لهم وعيهم بجوهر الوجود الإسرائيلي الفاقد لأي مشروعية. وبحق الفلسطيني وجدارته بالحياة مثل أي إنسان في الكوكب.

الخلاصة:

خمسون عاما، منذ آخر مواجهة بارزة تعرَّضت لها سلطة الاحتلال في سيناء 1973، كانت آثارها الحية قد طُمست، وصارت فعلا يبدو من العسير تكراره من قِبل أي دولة. ويبدو أكثر عسرا أن يُنجَز حدث مشابه له من قِبل مجموعة مسلحة محدودة القدرة والحركة.

خمسون عامل، وما من فعل يلجم جموح السلطة المحتلة ويخفض غرورها في التعامل مع صاحب الأرض. كانت إسرائيل البطل الوحيد في المسرح. ولا شيء ينذر بقوة منافسة وقادرة على تخريب صورة البطل المتسيّد فوق رؤوس الجميع. حالة كهذه، بلا شك؛ تنعكس على رؤية السلطة للقيمة الوجودية لصاحب الأرض، وامتداداته العربية المفترضة بكاملها.

ذلك أن وجود الإنسان وقيمته ليس أمرا ثابتا وموحدا، فهو وجود يتحدد بفاعليته، ومتى ما جُرد من قدرته على الفعل ينخفض وزنه عمليا في نظر اللاعبين السياسيين. من يصممون خطوط الحركة، يوزعون الأدوار ويتحكمون بالمسرح، ظلوا يواصلون اللعب موقنين أن الوجود الفلسطيني بات حكاية على الهامش، يُفضّّل المناورة معها، كموضوع للفرجة واللهو، ولا يمثِّل أي خطورة فعلية على سلطة الكيان، وقد غدت دولته بكل ذلك الرسوخ، وبفارق مهول يصعب تقليصه من قِبل أي خصم على مدى قرون.

أي أن بقاء الشعب الفلسطيني مكشوفا طوال نصف قرن، دونما فعل يدفع العالم للتعامل مع مأساته بجدية، كاد يحيل الحق الفلسطيني إلى سراب لا أحد مستعد للاعتراف بحقيقته، وما يستتبعها من حقوق شعب كامل. وحتى مع بقاء شعارات المساواة الإنسانية قائمة؛ لكنها ظلت شعارات بلا أثر.
وبعد كل هذا الزمن، وفي لحظة مباغتة، نجحت "حماس" في تصعيد الوزن الكامل للشعب الفلسطيني، التذكير بأن هناك قضية شعب مستباح، وأرض منهوبة. أمة كاملة من البشر تصرخ كل يوم، وتُطالب العالم أن يُعاملها مثل بقية شعوب الأرض.

تمكنت حماس من تكثيف فعلها المقاوم، بمستوى غدا جديرا بالتوقف معه كثيرا. أنجزت وعدا تأسيسيا للشعب الفلسطيني، ومعه تحققت غاية موازية: إجلاء الصدى عن الوجود العربي بشكل عام، بما يحفز قوى الرفض العربي الكامنة في الشعوب تجاه إسرائيل. لقد ضخّت المقاومة حيوية جديدة في مسار المواجهة الكلي مع الاحتلال.

أنجزت حماس الفعل ابتداءً، وكان الحدث امتحانا لعقود من التطوّر لسلطة الاحتلال. تطور بدا عُرضة للخلخلة، طالما أن هناك شعبا مقهورا يراقب حقه المستلب، وينتظر لحظة ينقض فيها على كل مُنجز يُبنى فوق أرضه، ولا يعود له. من هنا كانت دلالة الحدث أشبه ببعث لافت.

كان المحتل يظنّ أن أصحاب الحق عاجزون كل العجز عن القيام بمثله. لقد سهت السلطة المحتلة اليقظة عن رصده أو توقعه، وحتى لو ظلت مستيقظة عمرها كله لما نجح الغريب في اختلاس أرض شعب وتأمينها للأبد. ولعلّ هذا أشبه بناموس كوني، قانون يثبته التاريخ؛ لكنّ القوة السلطوية المفرطة تحجب أي رؤية كهذه. ولا تستشعر الشرارة إلا بعد أن تسري النار، وتنقلب المعادلة. فعلتها حماس، وغدت جديرة بقبض الثمن.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.