مقالات
قحطان وخذلان الساسة
بكل مواثيق البشرية، لم يكن جسد الإنسان وحريّته موضوعاً للاستثمار السياسي، أو ورقة للتفاوض وتحقيق المكاسب بين الخصوم المتنارعين، هذه فكرة أخلاقية مبدئية؛ لكنها تظل مكشوفة وعُرضة للهتك، في ظروف الحرب وفي غيرها، ما لم يكن هناك التزام أخلاقي صارم لدى الأطراف المتصارعة بعدم تعدي هذا الموقف.
في حالتنا اليمنية، حدث تجريف لكل المكاسب الأخلاقية والقيمية من قِبل الحوثي بشكل خاص، ومن قِبل بقية الأطراف بصورة عامة، مع تفاوت طبيعة ومستوى التجاوز لدى الطرفين.
دفع الحوثي بحدود التوحش حتى مستوياتها القصوى، وما قضية إخفاء قحطان سوى نموذج لهذا النوع من الدهس المتعمد لآخر ما تبقّى من القِيم الناظمة للحياة.
يمكن فهم الانتهاك كنتيجة عرضية للحرب، لكن ثمة انتهاكات متعمّدة، بغرض الإذلال أو النقمة السياسية المنفلتة، ونموذج قحطان هو مزيح من النقمة والضغينة، دفعت بالحوثي وصالح ابتداءً لاختطاف الرجل، ثم إخفائه طوال هذه الفترة. وبتلك الصورة التي يعرفها الجميع.
السجن مثل النفي، الأول نفي داخل البلد والآخر خارجه، وفي الحالتين ينطوي الأمر على رغبة متعمّدة لتجريد المرء من الفاعلية، عزله عن محيطه الاجتماعي، أو تكبيل قدرته على الحركة، وبما يفقده القدرة على الفعل والتأثير. وهذا ما حدث لقحطان.
كان قحطان أكثر الساسة حيوية وقدرة على حسم المواقف والموازنة بينها، وتدبير الرؤى القادرة على حلحلة الوضع، ولهذا كان هدفاً للانقلاب؛ كي يحيّدوه عن أي دور ممكن في صراعهم للاستحواذ على السلطة. ويمكن القول إن اختطاف الحوثي له، ونسيان الساسة قضيّته، هما أكثر فعلين باعثين للمرارة في مسيرة الرجل، وفي تاريخ الحياة السياسية في السنوات الأخيرة.
رجل بهذه الفاعلية، كيف لم يفعل رفاقه شيئاً لأجله..؟
سبع سنوات يقبع مناضل سياسي شهير في السجن، لا يعلم أحد عنه شيئاً، لا ندري هل ما يزال حيّاً أم غادر الوجود، هذه ليست جريمة أخلاقية بحق فرد، بل فضيحة سياسية لنخبة كاملة عاش معها هذا الرجل عقودا من النضال والعمل السياسي العام.
من الطبيعي أن طول مأساة معيّنة يضعف من اهتمام الناس بها، غير أن الجمهور اليمني ثبت أنه أكثر وفاءً لرموزه من رفقاء هذا الرمز أو ذاك، حتى أولئك الجماهير، التي تختلف مع قحطان، تناست خلافها معه وتضامنت مع هذا الإخفاء الطويل لرجل بلغ السبعين من عمره، وهو في السجن.
لا يتذكّر الساسة رفيق دربهم الطويل إلا على استحياء وفي مناسبات بعينها، هذا التخلّي المخجل يكشف طبيعة ضمائر النّخبة، وكيف يمكنها بسهولة التفريط بحياة رمز كبير، وتجاهل الاهتمام بقضيّته حتى إنهم لم يبذلوا الجهد الكافي للحصول على خبر يؤكد حياته أو ينفيها.
والحال هذه، يستفهم المرء إذا كانت طريقة تعاطي النّخبة يتسم بالبرود مع قضية رمز كبير، فكيف يتعاطون مع قضايا الناس العادية، أولئك الذين لا يعرفهم أحد، هل هذا النوع من الساسة يُعوّل عليهم أن يديروا مصالح الناس، ويحرصوا عليها بما فيه الكفاية..؟
أما الحوثي، فمنذ البداية تعمّد التكتيم على حياة قحطان، كان يمارس ابتزازا من نوع خاص، وفجورا في الخصومة معه، ومع التنظيم الذي ينتسب له الرجل، لكن تواصل التعتيم لدرجة عدم وجود أي يقين بخصوص حياة الرجل، أحالت الموضوع لما يشبه اللغز.
طريقة تعامل الحوثي مع قحطان تتجاوز مسألة الاستثمار السياسي الرخيص والفجور في الخصومة.
نحن أمام سلوك يكشف ذروة الانحطاط الأخلاقي لدى هذه الجماعة، لدرجة أنك لا تستبعد أنها تتكتم على مصيره؛ كي تنتزع تنازلات بجثته، وربما تواصل ابتزاز أهله، وقد غادر الرجل الوجود.
الخلاصة:
لا نريد السقوط في فخ التنجيمات والتنبؤات، لكن موضوع "اختطاف قحطان"، وربّما موته أو إماتته في السجن، اتخذت طابعا خاصا من بين كل المعتقلين بمن فيهم الرموز الكبيرة، ظلت قضية الرجل محاطة بغموض غريب، مع إصرار الحوثي على استدامة هذا الغموض دونما غاية، سوى النقمة من رجل صار مجردا من كل شيء، ومصيره تحت رحمتهم.
كيفما كان مصير الرجل، ما يحز في النفس ليس موته، بل هذا النسيان المحبِط، كما لو أن سنوات نضاله كانت بلا قيمة، ولا شيء يحز في النفس مثل السقوط من الذاكرة، ذاكرة البشر الذين عشت معهم، وتمازجت حياتك صبحياتهم، وحين تعرّضت للأذى مضيت سنواتك متألماً في العتمة وكأنك غريب أودعوك السجن بلا هوية، ولم يتبقَّ خارج الزنزانة من يفتّش عنك، ويرغب بمعرفة مصيرك.
خذلك الرفاق يا قحطان ومجّدك الناس، الناس الذين قضيت عمرك تحاول صناعة مصير يليق بهم.
لم ينسوك، وتلك هي ثروتك الحقّة، مكسبك الخالد، حيّاً كنت أو سافرت نحو الأبد.