مقالات
كلمة عن الصداقة والصديق
" الصديق هو أنت؛ لكنه بالشخص غيرك" أعتقد أن أرسطو نجح في قول عبارة مكثّفة تُلخِّص جوهر هذا المفهوم. الصداقة والصديق. كما أنّه ليس أمرًا هامشيًا أن تُشتّق الصداقة من " الصدق" ذلك أن أول شروط الصداقة، هو أن تكون مع الأخر كما أنت مع نفسك. وإن كان الأمر مستحيلًا، أن تكون معه كما أنت مع نفسك تمامًا؛ فيكفي ألا تخشى شيئًا وأنت مع هذا الأخر الذي ترقى علاقتك به ليكون صديقًا.
تتنوع العلاقات والروابط بين البشر، حدّ العجز عن تعريف كلّ علاقة بشكل دقيق. لكنّ الصداقة تبقى أرقى رباط وجودي بين اثنين من البشر، يبلغ المقام بهم حدّ أنّ كل شخص يغدو عنصرًا أساسيًا في وعي الأخر بنفسه. أنتَ لست فرد منفصل عن صديقك، لستَ كينونة معزولة تمامًا عن الأخر. فالأخر وتحديدًا ذلك الذي يحوز صفة "الصديق" هو جزء جوهري تفهم معه وجودك. وبغيابه، تكاد تفقد شيئًا من ذاتك.
يقال: نحن ننمو بالتواصل مع الأخر، شيء ما يتضح في أعماقنا. بوجود الصديق، يغدو وجودك موثوقًا، ومؤكدًا. ولعل حاجة الإنسان لتأكيد وجوده، حاجته ليكون حاضرًا ومعروفًا، رغبته بامتلاك إحساس راسخ بقيمته الذاتية. لعل هذا هو ما يجعل من وجود الصديق؛ مطلبًا جوهريًا؛ شرطًا تكتمل به رؤيتنا لأنفسنا، وننجح في تجاوز الريبة العميقة تجاه كينونتنا. أو لنقل: بوجود الصديق؛ ينجح الإنسان بتجاوز " الشك الوجودي" إزاء نفسه وحقيقته في هذا العالم.
لا يتعلق الأمر بضعف ثقة الإنسان بذاته، وليس في الحاجة لصديق، ما يقدح برسوخ الإنسان أو يثير شبه حول صلابته الذاتية ومدى إمتلاكه لنظرة شخصية تهبه اليقين والإمتلاء. لكنها حاجة طبيعية وفطرية، للإستئناس بالأخر. حاجة لنختبر وجودنا بحضوره. وعليه فالصديق، هو ذلك الذي تتمكن بجواره من امتحان وجودك الكامل. تتحرر فيها من وحشة العالم. تنجلس أفكارك عما تكونه، وتتقوى عوالمك الشعورية في القرب منه.
الأصدقاء أصناف كثر، مستويات عديدة..لا يمكن تصفيفهم عبر الأسماء أو المسميات. لكن للروح معيار حساس في تحديد المسافات. للإنسان بوصلة باطنية؛ تشتغل بعفوية وتضع كل صديق في المستوى الذي تتقاطع معه روحك. وكلما تضاعفت المساحة المشتركة بينكما، يتمدد الصديق ليملأ ما هو مخصص له.
لا علاقة لزمن الصداقة وتاريخ نشوءها، بالمكانة التي ينالها الصديق. فهناك من يبلغ زمن معرفتك به سنوات طويلة، ويظل موقعه رتيبًا وجامدًا في نفس المساحة. وهناك من تلتقي به، ولا يكاد يمر سوى ظرف قصير، ويتمكن من حجز موقعه المميز في مقامات علوية، هناك في تلك المساحة القدسية التي يغدو معها الأخر، حائزًا لنافذة ترى نفسك منها كما يرى نفسه من خلالك.
أميل لتجاوز كل أنماط الصداقات، وأتوقف مع "الصداقة الروحية" ذلك التمازج العميق بين ذاتك والأخر، لمجرد أن تتصل به، تنفتح المسارات، وتجد الأجوبة مستقرها، تتسع أعماقك ويستيقظ شغف أكبر بداخلك نحو الحياة. بشر ما إن تتعرّف عليهم، تبدأ مرحلة جديدة من نظرتك لنفسك، تتجلى نسخة منك، كانت مطمورة. إنّه يُبصِّرك بما لم تكن تعلمه عنك، يُضئ لك مناطق معتمة في كيانك ويحيّ ما ظلّ مهجورًا بداخلك حتى أنجز القدر وعده وعرّفك به.
هناك صنف أخر من الأصدقاء، صديق الفكرة والمعارف. ولربما أنّ هذا النوع من الأصدقاء يتداخل مع " أصدقاء الروح" لكنه قد يتمايز عنه. قد لا تتقاطع روحك مع صديقك الفكري وربما تتخالف. ففي عوالم الثقافة، ليس ثمة صداقات بلغت حد التمازج العميق سوى في حالات نادرة. ولعلّ الأمر يعود لسبب غامض كثيرًا وواضح قليلًا. لربما يكون فضاء اشتغالهم الموحد. أعني اهتمامهم بعالم الأفكار. سبب يمنع عمق التلاحم. فبقدر ما أن الفكرة شرط لصداقتهم، يمكن أن تكون سبب يفسر ندرة وجود صداقات ثقافية راسخة وعميقة.
شخصيًا، لدي قناعة أنّ الثقافة هي حالة من الطهر والبراءة الخالصة أو هي جهد يبذله الإنسان كل لحظة لبلوغ حالة كهذه. الثقافة كنافذة يحاول بواسطتها البشر وعي وجودهم. أظنّها في حالاتها العليا، تصل بالإنسان لحالة من الشفافية الباطنية القصوى، تُطهرّة من نوازعه المتدنية، وانفعالاته البدائية، وتجعله أكثر جاهزية لصناعة روابط إنسانية فائقة. حيث قوة الروح ونقاء النفس، إضافة لوصول العقل نحو مدارات وعي متقدمة، كل هذه؛ تجعل كيان الإنسان مؤهلًا لرباط وجودي وثيق مع الأخر. وتلك هي الصداقة كما أسلفنا.
ومثلما أنّ الصداقات مستويات كثيرة، فالثقافة مدارات عديدة. وفي أسفل السلم وحتى درجاتها الوسطى وربما قبل الوصول للحالات الثقافية المتقدمة. في كل هذه الدرجات، يحدث أن تكون الفكرة والبشر العاملون في هذه العوالم أقل قدرة على تكوين روابط حرة، ترقى لتكون صداقات راسخة. ففي عالم المثقفين، تحجب الفكرة جواهرهم الأصلية وتغدو روابطهم منحبسة في آراء ومواقف وتباينات، أكثر مما هي كيانات بشرية برئية وأرواح صافية تتمازج بخفة وتمتحن وجودها بعفوية كاملة. لعل التوجسات الفكرية، أشبه بحائل يعيق تدفق المجرى الروحي، ويغدو وجود الفرد محكومًا بمعرفته لقناعات الأخر عنه، ويتحرك بحذر كما لو كان تحت مجهر للمراقبة. لا شك أن هذا النمط من الصداقات، يحمل بذرة تعطّله، ولا يتعلق الأمر هنا بوجود حاجز يعيق تطور العلاقة؛ بل هناك إحتمال أن ينتفي تعريفها وتنزاح لدرجة عادية من الروابط البشرية. هكذا تكون الأفكار أحيانًا عامل انحسار في الروابط بين البشر. أي أنها تتحول لصيغة مضادة لما يفترض أن تؤديه من دور لتعميق الوئام الوجودي بين البشر.
أما أنا_ واغفروا لي هنا اللغة الذاتية في البوح_:
في صداقتي مع البشر، كان الشرطُ الأول في تقريب انسانِ ما مني، واتخاذه رفيق دربٍ أبديّ، ليس التركيز على مخزونه العقلي من الأفكار أو مستواه المعرفي، بل نزاهته الشخصيّة، أصالة طبعه واستقامة سريرته. حينها أراه صديقًا نوعيًا، ولو كانت تصوراته عن الوجود والحياة مرتبكة وعقله متواضع الذكاء، فهذه الأخيرة ليست نقيصة، إذ ما دام شفافًا ويتمتع بوضوح داخلي ونفسه متعافية من اللوثة، فهو قادرُ على تجاوز قصوره المعرفي. غير أن فقدانه للنقاء وتشوّه دخيلته، علّة يصعب استشفاءه منها. أمامي مكتبة تعج بأكوام هائلة من الأفكار وما لم تتحّد الفكرة العالية مع طهارة الشخصية، فلا قيمة لصديق يُبهرك فكره وتشعر بالحاجة للتطهر من لوثته فيما لو تورطت بصحبته.
ملاحظة أخيرة: الأصدقاء الذين لا علاقة لهم بعالم الثقافة، أكثر طهرًا وعافية من أولئك الذين يُعرِّفون أنفسهم كمثقفين. أشخاص ناجحون في حياتهم العملية، مهندسون، أطباء، مدراء، عاملون في شركات أو حتى أصحاب بسطات في الشارع. بشر لديهم فضول للوعي، دون أن يحملوا ادعاءات ثقافية. لعلّ هذه الفيئة من الناس، أكثر من يتصف بمودّة حقيقية، نماذج قدسية للصداقات الخالدة. أبرياء ومتوقدون، قلوبهم صافية ودوافعهم برئية والجلوس معهم مصدر للإشراق الروحي والغبطة الذهنية.