مقالات
كلمة عن "ميسّي" و"ذاكر نايك"
(التنوير المغشوش)
لا أدري ما مشكلة العلمانيين العرب مع الدِّين، ما إن يلاحظون مظهراً دينياً في أي نشاط بشري؛ إلا وتجدهم متوترين ويشعرون باستياء وحنق طفولي غريب. لا علاقة للأمر بحساسيتهم العقلية المجردة تجاه الأفكار، وما إذا كانت خطرة على الوعي أم لا؛ لكنه غالباً توتر مبدئي ساخط ضد كل فكرة متصلة بالدِّين بصرف النّظر عن منطقيتها من عدمه.
لكن لماذا هم مستائين من الملامح الرمزية للثقافة العربية والإسلامية، وحضورها في أجواء كأس العالم في قطر..؟ ما وجه الاعتراض؟ إلى ماذا يستندون في استيائهم؟ هل هناك فكرة منطقية جذرية موجِبة لمواقفهم المناهضة..؟
في الواقع، نحن أمام عقلانية تناقض نفسها، وتحت أي مسمّى كانت، ليبرالية أو علمانية، تستند لفلسفة الحداثة الشاملة أو حتى تنطلق من خلفية مشككة بالدِّين كليّاً، "إلحادية بأي معنى من المعاني" في كل الحالات، تبدو مواقفهم المنزعجة من أي مظاهر ذات طابع ديني مرافقة للمونديال مجرد ردة فعل عاطفية تكشف زيف النهج التنويري لديهم، وعدائيّتهم الضمنية لفكرة التنوّع الخلاق.
من المؤكّد أنّ قطر لن تسحب أحداً من جماهير كرة القدم أو الفِرق الرياضية كي تُدخله عنوة إلى أحد مساجد المدينة، كما ليس مُحتملا منها أن تُجبر أحداً على قراءة حديث نبوي معلق على أحد الشوارع. لهذا لا مبرر لأي تململ يبديه التنويرون في الزمان والمكان الخطأ. لكن ماذا عن صوت الأذان عند الفجر تحديداً، أيها الأيديولوجي الرجعي..؟ ألا يُحتمل أن يكون صاخباً لتلك الدرجة التي تجرح فيها مسامع ضيوفها..؟! ماذا لو أن نسبة كبيرة من زوّار قطر أجمعوا أن صوت الأذان مزعج بالفعل..؟ سيقول لك التنويري المغشوش: يُفترض بقطر نزع مكبرات الصوت الخارجية إذا كانت مهذَّبة بالفعل؛ كي لا يشوِّش الصوت محادثة أحد الزوّار مع حبيبته وقت أذان الفجر.
يا لهذا المنطق الأخلاقي الرومانسي!! إنهم بشر شديدو الحساسية ويتوجّب تشذيب المظاهر الدِّينية وتحجيمها وربما ابتداع تأصيل فقهي جديد، يضع اعتباراً دقيقاً لمشاعر الغرباء؛ حد إلغاء الأذان وربّما الصلوات، تعطيلها مؤقتاً؛ كي لا يسهر ميسّي ويقلقه صوت غريب. ما هذا الصوت الذي يتوجّب تحييده..؟ يقال إنه نداء متعلّق بطقس العبادات لدى المسلمين (الأذان)، لكنه ليس أكثر أهمية من مشاعر ميسّي، أما ميسّي فليس ملزماً باحترام حق المسلمين في إقامة صلواتهم بطريقتهم الثابتة منذ 14 قرناً. يا لهذه الأخلاقيات الزائفة!!
يبدو لي أن بعض المحسوبين على التنوير العربي ما يزالون يفكرون بعقلية اللحظات الأولى للصراع بين الكنيسة ورجال الدولة، لكأنهم لم يفقهوا من التنوير سوى لحظاته الأولية العنيفة، وصدامهم القطعي مع الدين. كان للرعيل الأول من التنوير (الفرنسي منه تحديداً) مبرراتهم في اتخاذ تلك المواقف الحادة من الدِّين بشكل عام. لكن هذا الموقف تعرّض لتحولات عديدة، وصولاً إلى حالة من التناغم الجيّد بين المجالين الدِّيني والدُّنيوي. فيما أنصار التنوير لدينا يمثلون الحالة السلفية من التنوير، ذلك التمسّك الجاف بالفكرة حتى وقد تجاوزها الزمن.
فالغرب نفسه واصل رحلته التطوّرية على مستوى الفكر والفلسفة، لدرجة فتح نقاشات جذرية حول الحق في حضور الدِّين داخل المجال العام، ليس كوجود طبيعي ومعتقد شخصي؛ بل كمرجعية أخلاقية وسياسية فعّالة. أي أنهم أعادوا التفكير بالسؤال التالي: ما الحجة المنطقية التي تمنحنا الحق برفض أي فكرة سياسية ذات خلفية دينية، فكرة أو حتى سلوكاً؟ هل لمجرد أنه سلوك ذو جذور دينية فهو مرفوض..؟ وهذا النوع من النقاش متقدّم جدا. مقارنة بأولئك الذين يستاؤون من حق المجتمعات المسلمة في ممارسة نشاطها الدِّيني وتعبيراتها عن موروثها الحضاري بشكل شخصي وطبيعي جدا. هذا الحديث عن النبي محمد، لماذا مزعج لكم؟ ألأنَّ النبي قاله أم أن فكرته خطرة على الوعي..؟ ثم ماذا لو ناقشتهم بأن للمتدِّين الحق في استلهام خطته السياسية من معتقده، ومزاحمتك للوصول إلى السلطة، شريطة ألا يناقض ذلك المبادئ الأخلاقية العامة والمتفق عليها كضوابط للنشاط البشري..؟! بأي منطق يحق لك رفضه واعتبار نشاطه سلوكاً رجعيّاً أو مزعجاً لك..؟
سيقول لك التنويري المغشوش: لا يصح تحويل مناسبة رياضية (نشاط إنساني ترفيهي وعام) إلى مناسبة دعوية..حسناً، أنت هنا تحاول تلبيس فكرة الدّعوة دلالة سلبية، وكأنّها ذلك النشاط القسري الذي يحاول هداية البشر قسراً، فيما الأمر ليس سوى ممارسة طبيعية لحق الشعب المستضيف والعرب والمسلمين القادمين عليه في نشر أفكارهم وتعريف الآخرين بأنفسهم. إذاً هو سلوك لا يختلف عن نشاط الغرب حين يروّج لأفكاره بطُرق كثيرة. ما المشكلة في ذلك..؟
ثم لماذا ترى أن استعراض البشر لأفكارهم أمام الآخرين كما لو كان نشاطاً وعظياً خطيراً، ولا ترى سلوك الطرف الأخر بكونه يتّسم بالصفة ذاتها..؟ العرب فكرتهم دِينية. الآن فهمتك، مشكلتك مع المصدر الذي جاءت منه الفكرة وليس مع الفكرة ذاتها. لذلك يبدو لك أن إصرار الآخرين على ارتداء أزياء مطبوعة بشعار المثلية سلوك طبيعي وممارسة للحق، لكن صوت الأذان مؤذٍ..! هذه المعايير المختلة هي ما ينتهجه التنويري المغشوش؛ لكنك إذا ذهبت معه إلى نقاش جذري ستكتشف أنه لا يملك ما يسند به حجّته، سوى انكشاف مخاوفه الوهمية، وتلك انفعالات تخصّه، وليست حجة معتبرة ضد النهج الآخر.
في الحقيقة، هذا النقاش الهامشي لا جدوى معتبرة منه، هو مجرد مؤشر ظاهري لنزاع فلسفي جذري بين تصوّرين للحياة، لذلك يبدو النقاش المحتدم حول قضايا تفصيلية مسدودا ولا يوصلك إلى طريق، لأنك لا تناقش آخر يقف معك على الأرضية نفسها، وتتفقون في إطارها العام؛ بل يذهب الخلاف نحو التصوّرات الكلية حول ماهية الأخلاق والحقوق، حول مفهوم الضمير نفسه ومصدر التشريع، حول ما يجعل هذا السلوك حقا لهذا الطرف أو لا. أي أنه نزاع حدودي حول القيمة والمعنى في هذا الوجود، وما الضوابط المحددة لهما؟ هل رغبة البشر بتغيير جنسهم حق محسوم؟ هل رفضك لهذا الحق يعتبر تهديدا خطيرا لمبدأ التعايش؟ من الذي يهدد السلم الأهلي ويخلخل الحياة المنسجمة بين البشر؟ من يتمسك برفضه لحق البشر المزعوم في تغيير هوياتهم البيولوجية أم من يطالبون الآخر أن يعترف بهم؟ أنت الذي تزور بلدي وتود ممارسة حقك في إظاهر ميولك الجنسي المغاير لما هو طبيعي، ألست من تهدد الذهنية الجماعية، وتحدث اضطرابا نفسيا في خيالات البشر داخل مجتمعي؟ أيهما أخطر سلوكك هذا، أم حقي في رفع صوت الأذان الباعث للطمأنينة لدى ملايين البشر الساكنين هنا منذ آلاف السنين..؟
وهكذا يتواصل الخلاف نحو مناطق جذرية، فالأمر ذاته ينطبق على حق الناس في نشر معتقداتهم، وهل في ذلك النشاط ما يهدد المختلف معهم أم هو امتداد لحقهم في الإيمان بما يشاؤون وترويج إيمانهم ومعتقداتهم كنوع من الرغبة بتوضيح صورتهم وتوسعة دائرة البشر المؤمنين بفكرتهم؟ أليس ذلك سلوكاً في إطار التنافس الطبيعي. حيث نشرك لحديث عن نبيك لا يختلف عن طباعتك لكتاب فلسفي وتسويقه كمرجع يحوي أفكارا تراها صالحة للخير العام؟ مرّة ثانية، ما الخطر في ذلك..؟
الخلاصة: نصل إلى فكرة نهائية: ألَّا أحد يملك مبررا صلباً يبدي بموجبه امتعاضه من أي نشاط للآخرين، مهما كانت صبغة ذلك النشاط، فليحضر ذاكر نايك، الداعية الإسلامي الشهير، وإذا ما صادف زوّاراً غربيين لديهم استعداد لسماعه فليخض نقاشاً معهم. وإذا ما نجح في إقناعهم فذلك يعود لبراعته، أو ليكن ميسِّي مثقفاً يحمل موهبة كامنة -موازية لموهبته الرياضية- وقدرة على خوص النقاشات المعرفية، وحالما تمكّن من دحض فكرة ذاكر نايك وإثبات خطأه المعرفي ومحدوديّته الأخلاقية، لا بُد أن يجد من يشيد به، وبالمقابل حينها لن يكون لأحد الحق في القول: لماذا تكلم ميسّي في ذلك المقهى وسط الدوحة، وجواره مسلمين، وأقنعهم بفكرة أخلاقية رفيعة. ولئن قال أحدهم بذلك، سيكون منطقه مرفوضا كما هو منطق التنويريين المضلل.
فالمبدأ واحد، أهلاً بمن لديه فكرة، قديمة كانت أو جديدة، له الحق أن يعرضها في أي مناسبة، وأمام أي تجمِّع للبشر. الحياة هائلة وتتّسع للجميع، ومن جاء من أطراف الدُّنيا لتشجيع كرة القدم لا شك أنه سيشعر بالضجر في بعض لحظاته، ويحتاج لبيت شعر أو فكرة فلسفية ليلوذ بها ويفهم بها انفعالاته ويهدأ. وآخر سيحتاج إلى إعادة استعراض فيديو يركّز فيه على الهدف الرهيب الذي سدده ميسّي ضد خصومه، ويشعر بالنشوة وقد تصادف رجلاً ثالثاً يحتاج لمتابعة مناظرة ل"ذاكر نايك" لربما يستفيد منها شيئاً، وآخر يترك كل هذه الأشياء ويجرِّب الصلاة. من هذا الذي يحتاج للصلاة والعالم يضج في الخارج؟! كثيرون يا فتى.
لربّما هو ميسّي، هل يحتاج ميسّي إلى الصلاة كي يشعر بالراحة؟! إنك مثير للضحك يا صاحبي، ميسّي لديه من الأموال ما يجعله قادرا على تحقيق كل ما يرغب به في الحياة دونما حاجة إلى أن يلوذ بالرّب؛ كي يحقق له حلمه. ليس مثلكم أيها المتديّنون الخائفون. نجم رياضي يجوب العالم، ولديه مليارات من البشر يتابعونه، ويمنحونه إحساساً عالياً بالذات، إنه يمتلك كل العناصر التي تجعله منسجماً بحياته للأبد. لربّما معك حق، لكن الإنسان لغز غريب، قد يكون ميسّي منسجماً في الوجود، لكن لا أحد يضمن أنه لن يشعر بالاكتئاب حتى آخر يوم بحياته. ولذلك يحق لنا القول: لو أنّ ميسّي ذكيٌّ، ذكاءً كليّاً في الحياة، لتوقّف مع نفسه قليلاً، وقال: دعني أصغي لهذا الرجل، ذي الوجه الصغير واللحية الغريبة، أعني "ذاكر نايك". حتى لو كان ما يقوله خرافات، دعني أتسلّى بها، لربّما يحتاج المرء يوماً إلى شيء من الخرافة. الحياة ليست قائمة على العقل الجاف والمنطق المادي البائس.
ماذا تريد أن تقول..؟ كلمة واحدة: انزعاج التنويرين لا مبرر له. فميسّي لن يُصاب بأذى لو تدفق في مسامعه صوت الأذان فجرا، بل يُفترض به العكس، لو أنه يملك طبيعة نفسية متّزنة ونشأة عقلية جيّدة، مرنة وواسعة، كما يزعمون. ففي سماعه صوت الأذان فرصة؛ كي يقترب من تجربة حياة غريبة ومختلفة، ويحاول فهمها، ولو من باب الفضول. إنها فرصتك لتوسعة مداك في الرؤية يا ميسّي. ثم أين الروح الرياضية أيها الحداثيون؟ أين الروح المتسامحة والطباع الواسعة، تلك التي تضيق بصوت يحبه أصحاب الدِّيار؟ أعني مرة ثانية صوت الأذان. لا شيء مزعج في ذلك، وحدهم ذوو الوعي المغشوش، التنويريون، المشتغلون على الهوامش، فقدوا الرؤية، ولهذا هم حانقون، ولا تدري لماذا هم كذلك!!