مقالات
كيف ستنهار المملكة؟
في الطريق إلى أعظم البقاع المقدّسة في العالم، تستقبلك عبارة "مرحباً بكم في مهبط الوحي"، حيث مولد الرسول الأعظم في مكة المكرّمة، ومسرح العمليات المقدّسة في التاريخ.
رغم ضيق المكان، وجهادك العظيم، وأنت تغوص بين مئات الآلاف من المُعتمرين، إلا أن شعور السكينة والطمأنينة، التي تغمرك أثناء الطواف في صحن الكعبة، لا يوصف، محتملاً رفسات بعض المُعتمرين ورُعونتهم.
الخروج، من المكان ذاته إلى المساحات المترامية والمسطحة خارج البقعة المقدّسة، يستدعي إلى المخيّلة فكرة تأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة.
استطاع أحد دُهاة العرب تأسيس إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف، بالجبروت، وقوة السيف، وقليل من السياسة، متغلباً على كافة خصومه.
قصة خروجه، من الكويت مع العشرات من أنصاره لاسترداد ملك أجداده، تعدّ من قصص الأساطير، كما في طريقة تطويعه لكل ظروف الصحراء القاسية، حتى إنه أضحى يلقّب في الغرب ب"ملك الرّمال".
طوّع جيشاً مرعباً، في عشق الموت والاستشهاد من كتائب"الإخوان"، والذي كان له الفضل الأكبر في تثبيت دعائم ملكه، وتأسيس الدولة الحديثة، وحين حانت لحظة المُفارقة، عصف بهذا الجيش في رمال الصحراء، في معركة شهيرة تدعى "السبلة".
قبل أيام، احتفلت السعودية ب"العيد الوطني" التسعين، وذلك يعني تسعين عاماً من الأمن والاستقرار واستمرار إمبراطورية النفط والمال في قلب صحراء الجزيرة.
لا أحد يشك بأن ثروة النفط والمكانة الدّينية المكتسبة من البُقعتين المقدّستين، في مكة والمدينة، كانتا من أسباب بقاء واستمرار هذه الإمبراطورية، حتى الآن.
لكن من واقع المتغيّرات الجديدة، التي تفرضها سياسة ولي العهد محمد بن سلمان، يتساءل المرء: هل ستحتفل المملكة بعامها المائة بعد سنوات؟
منذ وعيت نفسي، وأنا أسمع أو أقرأ عن الانهيار الوشيك للمملكة!
مضت عقود، لم يحدث أيٌ من ذلك. لهذا، قد يبدو الحديث الآن عن انهيار متوقّع هو استمرار لتلك السيناريوهات المتوهّمة.
حسناً. لنلقي نظرةً فاحصةً على الاضطرابات، التي تشهدها المنطقة جراء تداعيات ثورات "الربيع العربي".
ما موقع المملكة السعودية منها؟ تحاول السعودية بقوّة المال والنفوذ المكتسب منذ عقود تدمير وسحق الديناميكيات، التي أدت إلى كل هذا الفوران والغضب المتفجّر.
إنها تسعى بوضوح مُعلن هذه المرّة، وغير مسبوق -وإن كان متخفياً خلال عقود مضت- إلى محاولة سحق بذرات الحُرية والدّيمقراطية المُتنامية في المنطقة.
في الوقت ذاته، تسعى إلى تجديد ذاتها وتجذير بقائها في المُلك، من خلال إجراءات شكلية لقطع الصلة بالماضي المذموم، في الغرب خاصة.
وفي سبيل ذلك، تتهيأ على استحياء، بعد الإمارات، للّحاق بقطار "التطبيع"، مع دولة "إسرائيل"، وقد أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن خمس دول عربية أخرى ستطبّع علاقاتها مع "إسرائيل" من بينها السعودية.
اللافت أكثر هو سياسة تدجين المؤسسة الدّينية بالانفتاح على محرّمات سابقة، مثل: قيادة المرأة للسيارة، ودُور السينما، والاختلاط، وأماكن اللّهو المفتوحة للجنسين.
تبدو سياسة تدجين وتطويع فارقة، بالنّظر إلى ماضي تلك المؤسسة الموازية للحُكم، إلى حد أن إمام الحرم المكي أكد مؤخراً أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت تربطه علاقات ودّية مع اليهود، وذلك بعد عقود من تضرّعاته إلى الله بإهلاك وتدمير اليهود والنصارى.
وخلال الفترة الماضية الوجيزة، أنفقت المملكة مليارات الدّولارات على استضافة الأحداث: الترفيهية، والثقافية، والرياضية الكبرى، كاستراتيجية متعمّدة لحرف الأنظار عن انتهاكاتها المُريعة لحقوق الإنسان.
تأتي حرب اليمن، وجريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي كمرآة لتلك الجرائم. رغم وحشية الصور المتناقلة في وسائل الإعلام للدّمار، الذي أحدثته الحرب، وللساطور الذي قعطت به أوصال الصحفي خاشقجي.
غير أن بذرة الانهيار في سياسة محمد بن سلمان لا تكمن -في تقديري- في التماس أو انتظار العدالة من الغرب، بعد تجارب عقود من النّفاق المدفوع بصفقات التسليح وشراء الولاءات والأصوات.ما تزال المملكة حتى اليوم كخزينة مفتوحة للدّفع، مع وفرة مالية.
وإذ تسعى سياسة بن سلمان إلى تجديد ذاتيتها بالانفتاح الكبير على "تابوهات" كانت قد فرضتها المؤسسة الدينية، لكن سياسته، طوّقت المملكة بإيدلوجيات مناقضة، تماماً، للبنية الفكرية، التي أسس بها الملك عبد العزيز آل سعود الدولة بتزاوج مؤسستي الحكم والدّين.
مليشيا محمولة بإرث عظيم من الحقد، ولا يسرها أن ترى إمبراطورية المال مستمرة وقد قامت وتوسّعت على جماجم أبنائها في صحراء "نجد" و"الحجاز"، وكادت تشمل: الأردن، والعراق، وسوريا لولا "الفيتو" البريطاني.
أتصوّر بعد سنوات، وربّما قليلة جداً، كيف سيكون شعور السعوديين وهم يرون إمبراطوريتهم تنهار أمام أعينهم بعد عقود من المجد المُبدد في لحظات طيش "السياسة المراهقة".