مقالات
لا تُصدّق كلّ ما تُفكر به
يبدو لي أنّ الذهن هو مصدر كلّ إحساس. لمجرد إدراكك لشفرة عمله؛ تنجح في الإفلات من الشتات. مباشرة تنتّظم لديك نشاطاتك مهما كانت متضادة في طبيعتها.
بمقدورك أن تتابع حوارًا تلفزيونيًا -بودكاست، وهذا اسمه الحديث- مع باحث في علم النفس والسلوك. تتوقف للصلاة، ثمّ تتصفح مواقع إلكترونية بشكل عشوائي وخاطف. وتعود بعدها لمراقبة حالتك المزاجية.
هناك احتمال أنّك لن تشعر بأي فجوة بين أفكار علم النفس الواردة في المقابلة وبين نشرة الأخبار وهي تتحدث عن القصف الصهيوني لأحياء في غزة. ذلك أن ذهنك يُرتّب لك الصور بشكل متناغم، كما لو كان يُحلِّق بك فوق مجرى الحياة، ويُريك نشاطات متنوّعة في ظاهرها، وفي الباطن تنبع من الجذر نفسه.
"الحياة نهر يتدفق في كل مكان وفي كل الجهات"، هذا ما تقوله اللوحة الكلّية للوجود، وأي شعور ممزق هو نتاج إسقاطك الذهني فحسب.
يبدو لي أنّ ذهن شوبنهاور كان شديد اليقظة. وأن جوهر فلسفته يؤكد هذا المعنى. مهما كانت نشاطات الحياة ومظاهرها متناثرة ومتضادة فليس ذلك التنافر الظاهري سوى تمثيل خارجي، تجسيد شكلي لإرادة باطنية واحدة. ربما لهذا السبب، لم أشعر بأي تناقض، وأنا أشاهد امرأة ذات قوام فنان ترقص على أنغام أغنية مغربية.
وبالطبع لم أفهم كلمات الأغنية؛ لكني انطربت لها، ولربما كنتُ مفتونًا بقوة حضورها وليونتها الفائقة.
مع أن مشاهدة المقطع الفني، جاء بعد قراءة أربعين ورقة من رواية ذكية، بعنوان "طفيليات العقل" لكولن وليسن. رواية، يبدو لي أنّها تحكي عن فكرتين متباعدتين، غير أنّ الروائي الحاذق نجح في منحها صورة موحّدة. أرأيت أن الذهن هو من يوهمك بوجود شتات ما. فيما الحقيقة أنّ نجاحك في تحقيق حالة من اليقظة في ذهنك هي حيلة رائعة لإسقاط الشتات والشعور بتناغم حالتك الباطنية طوال يومك.
انظر، كيف تبدو النشاطات متعددة: مقابلة في علم النفس، مشهدا فنيا، صلاة، نشرة إخبارية، ثم قراءة عشرات الصفحات من رواية. هل تبدو لك الأمور مشتتة..؟ ربما. لكني لم أشعر بوجود انقطاعات في إحساسي الكلي بالعالم.
عودة إلى الروائي: لقد كان يحكي عن قصة انتحار غامضة، لرجل يوصف بأنّه ذكي ويتمتع بوجود وحياة رائعتين. انتحار عالم مختص بعلم النفس. لا يخطر في بال أي إنسان عرفه أنّه يُمكن أن ينتحر يومًا. لقد كان مثالًا للتفاؤل ويملك براعة لافتة في قدرته على أن يهب الناس دوافع قوية للعيش.
كان يُساعد المصابين بالعُصاب على تجاوز هواجسهم الانتحاريّة. نجح كثيرًا في حماية أرواح عديدة من التلف، وغادر الحياة فجأة، تاركًا وراءه لغُزا غريبا، ما يزال مدار بحث حتى يومنا هذا.
لم أكن قد وصلت إلى نهاية الرواية؛ لأفهم هل نجح الروائي المختص بعلم الآثار في كشف لغز موت عالم النفس، بالتوازي مع مهمته في التنقيب عن حجر "البازلت"، أم انتهى به الأمر إلى الحيرة الأولية نفسها عند سماعه الخبر، لكن هذا ليس موضوعنا الآن.
ما هو مهم هنا أنّك لا تشعر بوجود أي تناقض بين محاولات الروائي "كولن ولسون" تتبع الآثار التاريخية في الجبل الأسود ب"قرية ديار" بكر التركية، أو فضوله في الكشف عن السبب الغامض لانتحار عالم النفس "وايزمان". مع أنّ لا أحد كان يمكن أن يخطر على باله، ولو مجرد خيال أنّ رجلا مُشرق الروح مثله يُحتمل أن ينتهي به الأمر للمغادرة من هذا العالم منتحرًا. "يقال: كثيرون ممن نلتقيهم بالحياة، وتحديدًا أولئك الذين يظهرون كأنّهم متشبثون بها جيدًا، هم حالات مُحتملة للرحيل بشكل مباغت وصادم. لكن ما علاقة هذا الموضوع المتداخل بحديثنا عن الخطأ القاتل للذهن..؟
أردت القول: لربما أنّ شعورهم المفاجئ بالعُتمة الوجودية يعود إلى خلل ذهني. شعورك بتشظي الحياة هو خطأ ذهني. حالة من التشوّه المعرفي يمكنك تجاوزها بواسطة اليقظة الذهنية. ذلك أن الذهن هو مصدر كلّ إحساس، وبمقدوره أن يـمنحك الشعور ونقيضه من حدث واحد. كأنْ يوهمك بعدم وجود تناقض بين أفكار وردت في مقابلة تلفزيونية لباحث في علم النفس، وبين نشرة أخبار تتحدث عن قصف جوي لأحياء في مدينة "غزة " المستباحة من قِبل عصابات المُحتل الصهيوني.
فالنشاطان، متابعتك لأفكار تنتمي لعلم نفس الإنسان وسماعك لأخبار القتل، كلاهما مشاهد من قصة الحياة الكبرى. تمامًا، كما أنّ رؤيتك لمشهد امرأة ترقص على أنغام أغنية مغربية لا تفقهها هو حدث لا يبدو منفصمًا عن رواية "طفيليات عقلية"، وما تبحثه من أفكار. فالذهن قادر على توحيد الصورة في رأسك ومنحك إحساسًا منسجمًا بالحكاية. وهو ما يولّد لديك شعورًا رائعًا بالتناغم مع العالم. وبالمقابل، يُمكن للذهن ذاته أن يوهمك بأنّ الحياة مبعثرة. فاللذهن قدرة خارقة على أن يستدعي لك أي نوع من البراهين التي تبحث عنها.
يبدو أن الذهن هو مصدر كلّ الكوارث؛ فردوسك الممكن وجحيمك المحتمل معًا.
فقط، لمجرد وقوعك في حالة من السهو الذهني ستجد نفسك مستباحًا من الخارج والداخل معًا، ستفسر كل ما في الخارج كما لو كان العالم كله يخطط لنفيك من الوجود.
ومن الضفة الداخلية، ستصعد كوابيس الأزمان كلها، وتعزز لك البرهان عن أنّ حياتك كلها سوادٌ. سيبدو لك كلّ شيء متشظيًّا، وأنّ الحياة فارغة من القيمة، والنتيجة: شعورك بكآبة قاتلة، وربما تقرر الرحيل فورًا. فالحكم جاهز والبراهين مكتملة.
حسنًا، تريّث ولا تُكرر خطأ وايزمان. لقد استجاب المسكين لإحساس خاطف بظلامية العالم، وغادر قبل أن يتأكد من دقة الصورة التي يراها. ليته تأكد من حقيقية المشهد، كان سيتوصل إلى قناعة جديدة بأن ما شعر به هو مجرد خطأ ذهني قاتل. فالحياة كما هي الآن، جيدة وجديرة بأنّ تُعاش عبر كلّ الدروب، وفي مختلف الأحوال.
فقط، "لا تصدق كلّ ما تفكر به"، وهذه الجملة الأخيرة عنوان كتاب شهير، يُناقش أخطاء الذهن القاتلة، ويمنحك تنويرًا أكثر وضوحًا عن جوهر المشكلة.