مقالات
لماذا يلحد الشباب؟
ما من إنسان في الحياة إلا وتخطر في باله أسئلة الوجود الكبرى في أزمنة متفرّقة من حياته، تلك الأسئلة المتعلقة بالبداية والنهاية، والهدف والغاية من الحياة، من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ وما المطلوب مني فعله..؟ وغيرها من الاستفهامات المحددة للهُوية الوجودية للإنسان، وبالبحث عن أجوبة لها، يسعى لتأطير ذاته ومنحها معنى يفهم به الحياة من حوله.
غير أن درجة بروز هذه الأسئلة في الذهن البشري تختلف من شخص لآخر، ومن مرحلة عمرية لأخرى، ومن ظرف لثانٍ، فهناك من يمر عليها سريعا، ومن يتوقف عندها كثيرا، ومن يقتنع بأجوبة جاهزة نابعة من التصوّرات المجتمعية الكبرى للحياة، والأجوبة التي توفّرها العقيدة المشاعة في المحيط البئيي. وآخرون يحتفظون بقلقهم الخاص، لا تشبع فضولهم الردود العامة والجاهزة، ويحاولون التوصل لأجوبة مختلفة، وربما أكثر دقّة وإقناعا، وهكذا.
في هذه الوقفة العابرة لن نناقش القضيّة بشكل عام وشامل، وسنحاول التركيز على فِئة عمرية بعينها، ومدخل إلحادي أكثر اتصالا بها -مرحلة الشباب- باعتبارها "مرحلة التكوّن" وأكثر الفترات الزمنية في حياة الإنسان استيقاظا على هذا النوع من الأسئلة، بما تخلّفه من يقين بعدها أو تمرّد على التصوّرات السائدة في مجتمع ما.
انطلاقا من افتراض أولي ينظر للدِّين كقاعدة والخروج عنه استثناء (الإلحاد).
لماذا يلحد الشباب..؟ يبدو هذا السؤال مفتوحا، ويتطلب الجواب عليه بحثا شاملا عن الأسباب المركّبة لهذه الظاهرة المتنامية في واقعنا العربي بشكل عام، غير أن الزاوية، التي أهدف منها إلى الإجابة عن السؤال، هي زاوية واقعية، وإن شئت يمكنك القول: أكثر الدوافع المباشرة للتمرّد الشبابي على السلطة الدِّينية الراسخة.. دوافع متصلة بمزاج الجيل الحديث.
فمن يتتبع النماذج الشبابية المتمرّدة على الدِّين في مجتمعنا، يجد أن القطاع الأعظم من هؤلاء الشباب لا ينطلقون في مواقفهم الإلحادية من دوافع معرفية عميقة أو مشاكل نظريّة دقيقة تتعلق بقضايا الوجود والعدم، وأسئلة الحياة الكبرى.. كما أنهم لا يكادون يتخيّلون التحديات الأخلاقية التي تتطلبها فكرة الإلحاد كتصوّر بديل للكيفية التي يجب أن تسير عليها حياة البشر.
هؤلاء الشباب، حتى وإن كانت مواقفهم المعبّر عنها تتخذ طابعا معرفيا وتساؤلات شكوكية حول قضايا متصلة بالدِّين؛ لكنها في غالبيتها تظل مواقف هامشية وشكوكيات متناثرة لا تعكس امتلاكهم خلفية معرفية صلبة وتراكما فكريا ممنهجا بخصوص قضايا الوجود والحياة، أي أنها في الأغلب اعتراضات جزئية، تخفي وراءها دوافع أخرى وتتخذ من الشكوكيات الدِّينية غطاء لغاية أخرى، هي "نشدان الحُرية".
إنهم لا يكفرون بالله؛ بل يحتجون ضد المجتمع، ويبحثون عن ذواتهم المقموعة في مجتمع يصادر حُريتهم ويلغي شخصياتهم، تحت دعاوى التربية.. أي أن الآباء يواصلون التقنية القديمة نفسها التي تربوا بها، ويعاملون أبناءهم بالأسلوب ذاته، وهو ما يدفع هؤلاء الأخيرين إلى التمرّد.
وإذا صحّت الاستعارة يمكن وصف ظاهرة الإلحاد الشبابي بأنها: "مراهقة إلحادية" حد تعبير الفيلسوف التونسي، فتحي المسكيني، أي أننا أمام عملية تمرد شبابي أخلاقي واسع، ضد واقع خانق بالنسبة لهؤلاء المتمرّدين، واقع لم يعد بمقدورهم احتماله، ولم يعد قادرا على استيعابهم.
مرّة أخرى، لا يلحد الشباب؛ لأن لديه مشكلة مع فكرة الله، أو لأن لديه تصورا بديلا للحياة، هو لا يكفر بالله بالمعنى الحرفي للكفر؛ بل يتمرّد على مجتمع لا يعترف به، مجتمع يرغب بتطويع الشباب قسرا ولا يفقه نفسية الجيل الحديث وطبيعة الحياة التي يرغب أن يعيشها.
إن كان هناك من غاية وهدف يلخّص دوافع الإلحاد لدى الشباب فهو الرغبة بالتخلّص من القيود المجتمعية، التوّق العارم للحرية، والإعلان الصريح أن طابع الحياة القديم لم يعد يتلاءم مع طموحاتهم ونفسياتهم وطبيعة تفكيرهم المتجددة.
إنهم يسعون لتحطيم سلطة الرقابة الخارجية عليهم، ويثأرون ممن لا يحترمون عالمهم 'الجواني' الخاص.
لكن السؤال هنا: ما علاقة الدِّين بكل؟ وهل الدِّين عنصرا كابحا للحرية ومعيقا للاستقلالية ونمط الحياة الحديثة؟ بالطبع لا؛ غير أن هؤلاء الشباب لم يعرفوا من الدِّين سوى تلك الأسواط المرفوعة في وجوههم، سوط المجتمع الرافض لأي تنازل في مواقفه أو تفاوض أخلاقي مع هؤلاء الشباب الضجرين، والنفوس الغاضبة من واقعهم المشبع بالكوابح والخطوط الحمراء في كل شبر من حياتهم.
لا يلحد الشاب دفعة واحدة، فغالبا ما تنشأ بذور التمرّد انطلاقا من جزئية بسيطة، كشعور الشاب أنه مرغم على تأدية الشعائر التعبدية دون قناعة منه أو تعرّضه للإدانة بسبب علاقة عاطفية، أو إحساس المرأة بالظلم نتاج اضطرارها للتقيّد بلباس معين، وهكذا، بدلا من أن يجد هؤلاء في الدِّين فسحة لممارسة هذه الأمور الهامشية دون تعرّضهم للتعنيف والنبذ، يحدث لهم عكس ذلك، إذ ينبرئ المجتمع لجلدهم وحصارهم وتضييق الحياة لديهم، فيتحول الأمر لنزوع تمرّد شامل، يحطم فيه الشاب كل القيود الكبيرة والصغيرة؛ بحثا عن حياة حُرة، يقرر فيها مصيره وسلوكه الشخصي، بعيدا عن أي التزام ديني ومجتمعي، وبهذا يكون الدِّين -كمنظومة شاملة- عاجزا عن احتواء أو إقناع هؤلاء الشباب بمواصلة الانتماء إليه، وقد فقدوا أي إحساس مشترك بتقاربهم معه.
الخلاصة: لدينا جيل حديث انفتح وعيه على الحياة، وبين يديه منافذ عديدة للأفكار، ليست جميعها منافذ يتحكّم بها الدِّين، بالمقابل لدينا جيل سابق نشأ داخل تصور أحادي للحياة، نابع -أساسا- من الدِّين، وهو ما أنشأ فجوة بين الجيلين، في نظرتهم للحياة.
جيل ذو نزوع فرداني للعيش بشكل مستقل، وجيل يقاتل ليواصل تذويب أبنائه بالإطار نفسه الذي نشأ هو به، جيل أقلّ إحساسا بعالم الغيب وأكثر انتماءً للعالم الواقعي / المادي، وجيل أكثر روحانية ويزعجه رؤية أبنائه أقلّ التزاما بطقوس الدِّين.
وهكذا مع تزايد المسافة بين الجيلين، ذهنيا ونفسيا، تعقّدت إمكانية التفاهم، وصارت العلاقة متوترة، وكنتيجة طبيعية لهذا التوتر نشأت ظواهر عديدة، لعلّ أهمها ظاهرة "الإلحاد" الجديد، أو "موضة الإلحاد". إنه إلحاد بالمجتمع أكثر منه إلحاد بخالق هذا المجتمع.