مقالات

ماذا يعني أن تبصر اليمن في ثمانين عاماً؟ (1-2)

07/05/2021, 13:02:42

منذ أشهر عديدة أعمل على تحرير سيرة غنيّة لواحد من الشهود المعاصرين لحال اليمن منذ ثمانين عاماً؛ هو حسين محمد سعيد غالب السُفَّاري ( حسين السُفَّاري)؛ أما اليمن، الذي أبصره الراوي، فهو ذلك المتعدد بجغرافيته وثقافته ومذاهبه وناسه. اليمن بساحله، وسهله، وجبله. الفقير المتشظي، والمتوحد، والثائر والمستكين؛ المتخلف والمغلق في أنحاء متعددة، والمنفتح في مساحة صغيرة، المحاصر بالجبال، والإمامة والعسكر، الذي راهن على الثورة والثوريين، لكنه لم يسلم من المغامرين، والانتهازيين، والقتلة، وتجار الحروب.  

سيرة تغدو في تجليها السردي أشبه بلقطة سينمائية طويلة، تبحر في الزمن والمكان والوجوه بلا مُجمِّلات.
أما حماسي لكتابة هذه السيرة بتفاصيلها الدقيقة، هو أن الراوي العليم فيها يسرد كل ما علق بذاكراته المتوهجّة من أحداث بعفوية وتلقائية، ومن زاوية تعنيه لوحده، وأن زوايا النظر الأخرى للتفاصيل والأحداث  ذاتها تحمل -أيضاً- صوابيتها من وجهة النظر ذاتها؛ واقتصر دوري فيها بإعادة تحريرها  بطريقة أشبه بسيرة روائية، اضطرتني طبيعة الكتابة ذاتها إلى الغوص في التفاصيل الصغيرة لتدعيم هذا المنحى، حتى إن الراوي العليم في النّص يستعين بالنّص التاريخي، والمشافهات التي يقترحها المحرِّر، لسد نواقص حكائية يتطلبها المُسرود ذاته.

انطلقت هذه الرحلة في قرية "الظاهرة" في عزلة "المقاطرة" بلواء "تعز" حينها، التي وُلد فيها في العام 1938، حيث يتذكر فيها -بصفاء بالغ- قريبه الفقيه الضرير الذي فقد بصره حينما كان يعمل  السكة الحديد في "جيبوتي"، جراء انفجار لغم من مخلّفات الحرب الكونية الثانية؛ ويتذكر الجد الذي كان يعود في مواسم الحصاد من غربته في جيبوتي، حيث كان يمتلك محلاً تجارياً لبيع الخردوات، وكان دكانه ملتقى لأبناء قريته من الذاهبين والعائِدين من جبهات الحرب ضمن القوات الفرنسية، الحرب، التي عمل فيها اليمنيون كمحاربين بالأجر مع إيطاليا وفرنسا وانجلترا والمانيا، وصارت هذه المهنة جزءا من استلهامات نصوص الهجرة في أدب اليمن المعاصر.

حينما كنت أكتب عن أيام الطفولة وحياتي الباكرة في دكان عمل به والدي في السوق "المركزي" بتعز في السبعينيات، يتصل بي متفاعلاً مع ما أكتب، لأن هذه الكتابة - كما يقول-  تذكِّره أيضاً بزمن طفولته، حين أخذه والده طفلاً من القرية إلى عدن منتصف الأربعينات، ولم تزل لاصقة  بذهنه تفاصيل الرحلة الأولى إلى المدينة الساحرة. يتذكر الحِمار الذي حمله مع أبيه من قرية "الظاهرة" إلى أولى محطات وقوف البوابير الكبيرة التي تنقل الرّكاب إلى عدن.

يتذكر كيف أن الحِمار  استلقى على تراب ناعِم في أطراف مقبرة قديمة، ولم يستطع الأب انهاضه، وحينما مرّت امرأة قالت له "ضع القليل من التراب الناعم في منخريه"، وحين فعل بمشورتها ووضع الترب بمنخريه نهض الحِمار.
يتذكر من تلك الرحلة دهشته الأولى في السفر، ودهشته من المعمار ومظاهر الحياة، حينما وجد نفسه في المدينة العصرية، يتذكر، وبكثير من الشجن، حياته الأولى في دكان والده في ممر العطّارين في أحد أسواق "كريتر" العتيقة.

أهم أحداث حقبة الأربعينات، التي كان شاهداً عليها، اختزلها في حوادث إحراق مساكن ومتاجر اليهود في منطقة قريبة من مكان إقامته أواخر العام 1947، وشاهد كيف كان يربط بعض المحتجين والمتذمّرين، من احتلال اليهود لفلسطين، وتقسيمها  بقرار من هيئة الأمم المتحدة، خِرَق قماشية مبلولة بالجاز في ذيول القطط، ومن ثم إشعالها ووضع القطط أمام مداخل مساكن وعمارات اليهود، التي كانت تتداخل مع بعضها بدرج مفتوح من البوابات إلى السقوف، لإشعال حرائق  مهولة في البيوت، وشاهد عمليات السلب والنهب للمحلات التجارية، وكيف كانت تُباع السلع المنهوبة برخص التراب، حتى إن نعمان – العامل في محل والده وصهره لاحقاً - اشترى سجادة فارسية ثمينة، تم وضعها في إحدى غرف المنزل المستأجر في سوق الحراج، وحذاء أنيقا كان يلبسه أخوه الكبير.

عن حياة طفولته البعيدة في "كريتر"، يتذكّر  تفاصيل لعبه لكرة القدم مع أطفال آخرين في صهريج قديم،  نشأ مكانه -في وقت لاحق- فندق شهير، يقول:
"كُنا نشكّل ثلاث مجموعات للعب، وحينما استعيد تركيباتها الآن أراها أنها كانت تختزل مدينة عدن  بتنوعها السكاني والثقافي، فمجموعة أولى كان  عمادها الأولاد الصوماليون، الذين تسكن أُسرهم في مناطق "الخُساف" و"الطويلة" و"العيدروس"، والمجموعة الثانية من أولاد الأُسر العدنية "ذات الأصول الهندية والمصرية والحضرمية"، الذين تسكن أُسرهم مناطق الحوافي القديمة، كحافتي "حسين" و"القاضي" ومجاوراتهما، أما المجموعة الثانية فمن أطفال المناطق الريفية  خارج مدينة عدن، وفي الغالب من أرياف الحجرية، وكانت حُمى التنافس بين المجموعات تنتهي -أحياناً- بعراكات شديدة، يرافقها  إطلاق ملفوظات خشنة تحيل إلى التمايز المناطقي، فمجموعتنا تُنعت بالجبالية (لفظة تحقيرية لنعت الريفيين الذين وفدوا إلى عدن من مناطق الجبال)، وبالمقابل كنا ننعتُ -نحن- المجموعتين الأخريين بالصومال والهنود، وعند العراكات يتجلّى عنف الصوماليين وتماسكهم وبأسهم، ولا يتوانون باستخدام الأشياء الحادة  والجارحة، مثل: الزجاج والحديد، غير أن "العدانية" كانوا أكثر أناقة في عراكاتهم، ويستخدمون وسيلة "المُدارجة" في العراك ؛ والمُدارجة هي خليط من فنون القتال بين الجودو والتايكوندو والكاراتيه، تنتهي بإسقاط الخصم بطريقة فنية تستدعي زهو المنتصر والضحك على المهزوم، أما نحن "الجبالية" فقد كُنا نستخدم الوسائل التقليدية من اللكم واللطم والرفس. هذا المسرود التفصيلي أقرب لقراءة ثقافية واجتماعية ونفسية لحال المدينة في ذلك الوقت، والتعريف بتنوّعها حتى من الباب الضيّق لوعي الطفولة البسيط.

عقد الخمسينات هو الأثرى في مسيرة الشاب، حيث سيبدأ بارتداء الملابس العصرية (بنطلون وقميص)، استعداداً لانتظامه في مدرسة "بازرعة" الخيرية، حيث سيتشكل وعيه  ليغدو أكثر استيعاباً لما يدور حوله من أحداث كُبرى، وفي هذا العقد ستبدأ علاقته بالقراءة من خلال مجلة الأطفال (سندباد) منذ عددها الأول الصادر في العام 1952م، وهو عام "ثورة يوليو" المصرية، التي ستجرفه إلى معمعة السياسة مثل كثير من الشبان اليمنيين المُقيمين في عدن.

في المدرسة سيتعرّف على أهم شخصيتين تربويتين  أثّرتا عميقاً بوعيه الأولى; شخصية الأستاذ علي عبدالكريم الشيباني -أستاذ الأدب والبلاغة وعضو الهيئة الإدارية للاتحاد اليمني، الذي تأسس في العام 1952، على أنقاض حزب "الأحرار اليمنيين" الذي ألغت ترخيصه السلطات الاستعمارية بضغوط من سلطة الإمام أحمد، بعد فشل الحركة "الدستورية" في مارس 1948م.
هذا الأستاذ هو من سيأخذ بيد الشاب إلى الاتحاد، وسيسند له مهام تدريس الأطفال من أبناء العمّال والمدكِّنين، الذين لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس الحكومية والخاصة في مقر الاتحاد في حافة "القاضي".

أما الشخصية الثانية فهي الأستاذ حسين سالم باصديق، الأديب والقاص الكبير، الذي كان يعمل استاذا للغة الإنجليزية والتاريخ، وأحد مسيّري المدرسة حينها.
فترة الخمسينات في ذاكرة حسين السفاري هي زيارة الملكة اليزابيت إلى عدن في أبريل 1954م بعد أسابيع قليلة من زواجها، وكان ضمن طلاب المدارس الذين استقبلوها في الميدان البلدي في "كريتر"، وكيف بقيت المدينة تتحدّث عن تلك الزيارة لسنوات. وهي كلية "عدن"، التي التحق بها بعد تخرّجه من مدرسة "بازرعة"، وتتلمذ على أيدي أهم الأساتذة مثل: لطفي أمان، وعبدالله محيرز، وعبدالله هاشم، وهي تجارة والده التي بدأت تنشط وتتوسّع بفعل الطفرة الاقتصادية في المدينة بتحولها إلى قاعدة متقدّمة للجيش البريطاني في المنطقة، بعد جلائه عن مصر. هي الاتجاه الشاب في الاتحاد اليمني الذي قاده النعمان الأبن (محمد أحمد نعمان)، بعد لجوئه إلى عدن في العام 1955، وهي شرفة الخليج الثائر في فندق قصر الجزيرة، التي  كانت ملتقى للنّخبة السياسية الشابة في ذروة المد القومي، وهي القاهرة ومدرسة علي باشا مبارك في السيدة زينب التي التحق بها لإكمال البكالوريا ولم يفعل، وهي مقر الاتحاد اليمني في "الدقي" والأستاذ النعمان الذي قرَّبه كأحد أبنائه.

بعد شهرين من قِيام ثورة سبتمبر في العام 1962، سيقوم بتسليم مفتاح السيارة "المرسيدس"، التي بحوزته لخبير تشيكي - كان يجول معه في أسواق عدن لتفقّد إقبال الناس على إحدى منتجات الشركة التي يمثلها الخبير- ليلتحق بركب الفِدائيين الذاهبين إلى تعز للدفاع عن الثورة في قيادة تعز، تاركاً خلف ظهره تجارة والده وثراءه. في "دار الضيافة" سيرى كيف استبدل وجوه العهد الجديد كوافيهم بالعمائم التي انتهى وقتها، سيكون ضمن قوام إحدى اللجان التي حصرت موجودات القصور، حيث كان للإمام أحمد -في أيامه الأخيرة- فيه جناح خاص، يحتوي على سرير صُمم بمواصفات  معيّنة، ومقعد خاص يستخدمه بمعاونة الخدَم كحمّام سفري (مؤقت).

وقال في مرويّته: "كنا، أثناء التفتيش والبحث، نجد تحت الوسائد الخاصة به رسائل وجوابات وقصائد مديح، وفي الرفوف بعض التُّحف البدائية، وقناني عطور مستخدمة وأغلفة هدايا (صناديق صغيرة تشبه ما تحفظ به المجوهرات)؛ أما في الحقائب الجلدية  الكبيرة إلى جوار السرير  فقد وجدنا فيها 'شيلان' و'فوط' و'أقمشة إنجليزية' راقية، كانت تصله كهدايا في الغالب من مأموري الجمارك في النّقاط الحدودية في "الراهدة" و"المفاليس" و"معبق" و"المضاربة"، ومن التجار والمغتربين والمهاجرين اليمنيين في عدن وما وراء البحار وأفريقيا، ووجدنا أيضا علب شكولاتة تقليدية ماركة "ماكنتوش كواليتي ستريت"، بعلبِها الصفيحة الملونة، وقناني متعددة من "الكولونيا" الفرنسية العتيقة (ريف دور)، التي كنا نستخدم ما يشبهها في مقر القيادة لدعك أجسامنا  بمحتواها حينما يعزّ علينا الحصول على الماء للاغتسال.
  أيضاً وجدنا صوراً لبعض من نساء القصر، وهي في الغالب من الجوازات التي سافرن بها كمرافقات للإمام في رحلته العلاجية  الطويلة إلى روما، وتجاوزت الأشهر الخمسة في العام 1959.
"يتبع"

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.