مقالات

ماذا يعني أن تبصر اليمن في 80 عاماً؟ (2-2)

14/05/2021, 11:00:46

حينما وصل حسين السفاري إلى تعز في نوفمبر 1962م، لم تكن هي تعز التي جاءها من عدن قبل أربعة أعوم، وهو يبحث عن عمل في مشروع النقطة الرابعة، أو للحصول على جواز متوكلي يمكّنه من السفر إلى السعودية، بعد خلاف كبير مع والده بسب توقيعه على بيان تبنّاه الاتجاه الشاب في الاتحاد اليمني، وكان يناهض الاستعمار، والاتجاه الانعزالي للجمعية العدنية، وتوجهات رابطة أبناء الجنوب ضد الوحدة اليمنية. بقي في تعز لأسابيع، وبكيفية مزاولته هواية  تعليم الأطفال في الاتحاد اليمني في حافة "القاضي" بعدن، مارس الهواية ذاتها في تعليم الأطفال في بدروم عمارة عبده محمد أبو الذهب في الشارع الرئيس الذي يربط المدينة القديمة بالعُرضي (شارع 26 سبتمبر لاحقاً)، ويقول عن ذلك: "بقيت في  مدينة تعز عند عبده محمد أبو الذهب بالقرب من المدرسة الأحمدية (شارع 26 سبتمبر الآن)، أعمل على تدريس بعض الطلاب أسفل عمارته، بذات الطريقة التي كُنت أعمل بها في تدريس الأطفال في الاتحاد اليمني، وكنت أسكن  بالقرب من حوش 'الغنامي' فيما كان يسمى 'فندق الوحدة العربية'، بعدها جاء صديق الوالد وشريكه في عمارتنا أسفل العقبة، القاضي والسفير عبد الجبار المجاهد، وأخذني إلى مسكنه في منطقة 'الأشرفية' في مدينة تعز القديمة، وهناك تذوّقت، ولأول مرّة، 'بنت الصحن'، و'السبايا'، و'الطرمبة' التعزية، و'الملوج'، و'السلتة'، وغيرها من المأكولات التي تجمع بين المطبخين 'التعزي' و'الصنعاني'. شقيقي الكبير عبدالله لحق بي إلى تعز بعدها بأيام، بطلب من الوالد لإقناعي بالعودة من جديد إلى عدن، لكنّي لم أعد معه؛ وما عجز عنه شقيقي عبدالله نجح به عبد الجبار المجاهد بعد أسابيع، إذ استطاع إقناعي بالعودة معه إلى عدن لتسوية الموضوع مع الوالد".


كانت تعز، في زيارتها الثانية، تتمدد، وإن استكانة وصمْت السنين تحوّلت إلى صخب وحركة لا تهدأ؛ يفد إليها الناس من عدن والمهاجر والأرياف للمشاركة في الدّفاع عن الثورة والنظام الجمهوري الوليد، كونها العاصمة الحقيقية للدولة، منذ اتخذها الإمام أحمد مقاماً دائماَ له، ونقل إليها الجهاز الإداري البدائي في نظامه.
لم يبقَ السُفَّاري في تعز غير أشهر قليلة، فاستُدعي من قبل السَّلال هو ورفيقه محمد علي الأكوع إلى صنعاء، بعد أن وصلت خلافاته مع أنصار عبد الرحمن البيضاني إلى ذروتها - كما يقول.
في صنعاء، التي وصلاها عن طريق الحديدة في مساء بارد مُمطر، سيبدأ اكتشاف مكان جديد يعرفه لأول مرّة، على عكس رفيقه الذي ينتمي إلى المنطقة ذاتها، ويقول عن تلك اللحظة: "بدأت أتعرّف على المدينة، وانتقلت من جديد إلى السّكن في دار الضيافة (مبنى المُتحف الحربي في التحرير)، برفقة الدكتور حسن مكِّي، حين تشاركنا معاً في إحدى حجراته، وحينما وصل محمد النعمان بعد ذلك بوقت قصير أخذني للسكن في منزل 'العزي صبرة'، وكان يُقيم فيه أيضاً الشيخ محمد علي عثمان، وكنت شاهدا على سجالات طويلة بينه وبين آخرين يفدون إلى هذا المسكن، الذي تحوّل إلى منتدى، ومنهم علي بن علي صبرة.


كنت -كعادتي- أصحوا باكراً، وأحمل معي ثلاجة شاي إلى ميدان شرارة تخص الشيخ محمد، الذي يفتتح صباحه بالشاي، وبعد تناول الإفطار يخرج لمشاغله في القصر الجمهوري، وأبقى أنا حتى ينهض ساهرو الليل، لنبدأ تمضية نهارٍ جديدٍ في صنعاء التي صارت قُبلة للثُّوار والحالمين، في وقت لم يكن فيها فندقٌ للإقامة عدا سماسر 'نُزُل' المدينة القديمة، بأوضاعها المُزرية، ولم يكن بها مطاعم، لكنّها بدأت رويداً رويداً تتعصْرَن مع صعود رؤوس أموال بعض التُّجار اليمنيين من عدن إليها، فنشأت الفنادق والمطاعم والمباني الحديثة، في المنطقة الواقعة بين منطقة شرارة (ميدان التحرير) وسور المدينة القديمة، وصارت تُعرف لاحقاً بشارع علي عبد المغني.

وصارت في أدبيات الدراسات الاجتماعية والتاريخية تُعرف بمدينة صنعاء الجديدة، بعماراتها الاسمنتية وشُرفاتها الواسعة، التي تختلف كُلية عن نمط العمارة الصنعائية التقليدية والمشيّدة بالطين المحروق، والنورة والجص".
بعد أشهر قليلة، سيصدر من وزارة الخارجية قرارٌ بتعيينه وزيراً مُفوضاً في السفارة اليمنية في "يوغوسلافيا"، برفقة السفير محمد أحمد نعمان.
لم يكن في "بلجراد" سفارة في الأصل، واستحدثت فقط كون الدولة الاشتراكية عضواً مؤسساً في مؤتمر "باندونج" لعدم الانحياز مع مصر والهند ودول "عالمْثالثية".


وخلال إقامته في العاصمة "بلجراد"، لم يفعل شيئاً يُذكر، غير الحصول على مولد كهربائي ضخم كمِنحة من الحكومة "اليوغوسلافية" للشعب اليمني، وإن هذا المولِّد ذا الصناعة الألمانية بقي يعمل لسنوات طويلة في كهرباء صنعاء.
انتقل إلى السفارة اليمنية في بون (عاصمة ألمانيا الغربية وقتها)، التي كانت غارقة في الديون، للمصحات والمستشفيات الألمانية، بسبب أن الأُمراء ورموز النظام الإمامي كانوا يفدون للعلاج بتوصيات من الإمام أو نجله البدر، فتلتزم السفارة بتسديد تلك النفقات، ويقول عن ذلك:
"وحين وصلت ألمانيا وجدت السفارة غارقة في الديون للمشافي والجهات الصحيّة الأخرى، لأن أمراء المملكة المتوكلية وكبار موظفيها، قبل ثورة سبتمبر،  كانوا يذهبون للاستشفاء هناك على حساب الحكومة، التي تأخّرت بدفع ما عليها من التزامات لتلك الجهات، حتى إن طاقم السفارة، من جراء شح الإمكانيات، كان يتناوب على تنظيفها، لعدم وجود عمّال نظافة فيها، وحين علمتُ أن وزير المالية في حكومة الثورة، المرحوم عبد الغني علي، في القاهرة من أجل استكمال إجراءات إصدار الرِّيال الجمهوري، سافرت إلى هناك لعرض مشكلة ديون السفارة عليه، لكنّي عُدت خائباً، رغم أن الرّجل حاول مساعدتي، غير أن الظروف كانت قاسية. فقررت العودة من جديد إلى ألمانيا لتصفية أعمالي، والعودة إلى عدن لإحساسي أن العمل في الدوائر الرسمية غير مجدٍ".

قبل أن يُكمل العام قُنصلاً في "بلجراد" ثم في "بون" عاد السُفَّاري إلى صنعاء مع حلول الذٍّكرى الأولى لثورة سبتمبر، التي شارك في التحضير لها ممثلاً عن وزارة الخارجية، التي عاد إلى العمل فيها مديراً للمراسيم، وقت كان السفير مصطفى يعقوب يدير شؤونها.


انتقل للعمل بعد ذلك إلى الشركة اليمنية للتجارة، التي أسسها في صنعاء محمد سيف ثابت وعبدالله شمسان الدالي، وكانت تتبعها المؤسسة اليمنية للهندسة والمقاولات، التي أنشأت "سينما بلقيس"، وكانت الإدارة هي التي تتولّى توريد الأفلام لها من القاهرة، ولعب الشيخ المناضل جازم الحروي دوراً مهماً في دعم هذا الصرح الثقافي، الذي أسس لخطوات الحداثة في المدينة المُغلقة، حين كان همزة الوصل بين المؤسسة والمؤسسات الثقافية المصرية.
ولاحقاً كان لعبد الكافي سفيان، بعد عودته من جيبوتي، دورٌ مهمٌ في تزويد "سينما بلقيس" وبقية دُور السينما في صنعاء وتعز والحديدة وعدن بالأفلام المصرية والشرقية بعد ذلك، وأنه قام -في تلك الفترة- بإنشاء سينما مماثلة في مدينة التّربة.
أثناء فترة عمله في الشركة اليمنية للتجارة، افتتح حسين السُّفاري محلاً لبيع المفروشات في بيوت السياني الواقعة أمام دار الضيافة (المتحف الحربي اليوم)، غير أن والده - رجل الأعمال المعروف - قام بإقفال المحل، ونقل محتوياته إلى مدينة الحديدة، حيث قام والده بنقل جزء من نشاطه التجاري إلى المدينة الساحلية، التي بدأت تستوعب نشاط رجال الأعمال القادمين من عدن.


(**)


تشبعت السيرة بمسودتها الأولى بالتفاصيل الكثيرة التي احتشدت بحياة الراوي، ولم يزل يتذكرها بيقظة واضحة، وتحيل إلى مناطق مهملة في تاريخ اليمن الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، على نحو نُشوء واتساع المُدن وتطوّر الخدمات فيها، فعدن (كريتر) كانت في نهاية الأربعينات عبارة عن أحياء مخططة أنيقة غير أن شوارعها لم تكن مسفلتة، ويغطيها التراب، وكان هناك أشخاص تقتصر وظائفهم على رشها في 'العصاري'  بالماء الموضوع في قِرَب، يضعونها على أكتافهم، من أجل تخفيف درجات الحرارة، ومنع تصاعد الغبار أمام المحلات التجارية في الأسواق، مثلهم مثل أولئك العمّال الذين يقومون بنقل مخلفات حمامات المنازل (الجلَّي) بصفائح معدنية ووضعها على عربات تجرها الحمير، يصاحب مرورها في الأحياء رائحة كريهة لا تطاق.


يتذكر المراحل الأولى لنشوء الشارع الجديد في مدينة المُعلا، بعد أن قام الإنجليز بردم جزء من البحر أسفل جيل "شمسان" من الجهة الشمالية، وتحويلها إلى مواقع عقارية، وأتاح للمتنافسين من التجار شراءها لتشييد عمارات عصرية بمواصفات محددة، ليتحول هذا الموقع إلى أهم شارع في الجزيرة والخليج خلال حقبة الخمسينات.
في فترة الستينيات حتى أوائل السبعينيات، سيكون شاهداً على نُشوء صنعاء الجديدة، التي انحصرت وقتها في شارع "علي عبده المغني"، وفي استعاداته يتذكر تفاصيل المكان ابتداءً من مبنى البنك المركزي على أطراف مقبرة "خزيمة" إلى عمارة البنك اليمني الحديثة جوار "الرادع"، ويتذكر تفاصيل نُشوء مبنى البنك نفسه بهيئته العصرية المميّزة بالجوار من دار الشكر.


يتذكر محمد أحمد شعلان وزير البلديات، الذي أشرف على تخطيط شارع "علي عبده المغني" وتفرعاته، ويتذكّر أخيه علي أحمد شعلان، الذي أنشأ فندق "المخا" الشهير بالشارع ذاته، وكان أحد عناوين صنعاء الجديدة.
حينما يتذكر "سينما بلقيس" في صنعاء، حين كان أحد الفاعلين في نشوئها يعمل في الشركة اليمنية للتجارة، يستعيد ذكرياته مع سينمات عدن الشهيرة في الخمسينات (شاهيناز، وريجل، وبلقيس، والشعبية، والهنود، وبيومي، وغيرها)، ومعها سيتذكّر الموالد والزيارات الشعبية لأولياء عدن، مثل: العيدروس في كريتر، والهاشمي في 'الشيخ عثمان'، وكيف كانت تتحول تلك الزيارات إلى أعياد حقيقية، يلبس فيها الكبار -قبل الأطفال- الملابس الجديدة، وتنتشر في باحات المكان الألعاب الشعبية، وعلى رأسها "الدراهين الخشبية"،  و"الجمال بهوادجها الملونة والمصبوغة بالحناء".


حينما تحضر في ذهنه مدرسة "علي باشا مبارك" في "السيدة زينب" في القاهرة الفاطمية، التي التحق بها أواخر الخمسينات، تحضر أيضاً مدرسة "بازرعة" الخيرية، وحصص الموسيقى التي كان يُشرف عليها الفنان العدني المشهور يحيى مكي الذي تتلمذ على يديه -في المدرسة- الفنانان أحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي زميلاه في المدرسة.. سيتذكّر "كلية عدن"، التي شيّدها الإنجليز على أطراف "دار سعد" من أجل تهيئة الطلاب المتفوّقين للالتحاق -بعد ذلك- بجامعة "لندن"، و"الجامعة الأمريكية" في بيروت والقاهرة، ومعها يتذكر باصات النّقل بكراسيٍّها الخشبية ونوافذها المفتوحة التي كانت تقلّه هو وزملاءه القاطنين في حواري "كريتر" من أمام حديقة البلدية (البجيشة) عبر الطريق البحري في وقت مبكّر جداً، يكون فيه قد حمل إفطار زملائه من: الروتي الساخن والزّبدة الكيني، بوصفه مسؤول المال في المجموعة.
أما رحلته الطويلة في العمل التجاري مع أبيه وإخوته في شركة السّفاري وتعثرات الشركة والتآمرات عليها التي أوصلتها إلى الإفلاس، وعمله في شركة الأدوية، ووزارة المغتربين، وعضويّته المستديمة في مجلس إدارة البنك اليمني للإنشاء والتعمير، فهي سردية أخرى بحد ذاتها، وتفاصيلها تصير استكمالاً لهذه المشاهدة الطويلة لحال اليمن خلال ثمانية عقود.

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.