مقالات

متراس أخير اسمه "الكتابة"

01/10/2021, 09:19:51
المصدر : خاص

(1)
سنوات القهر الأخيرة أقفلت أمام الكثير منا ككتاب، خصوصاً نحن المقيمين في الداخل المتهتك، كل المساحات المتاحة التي كنا نتحرّك فيها، وكانت أشبه برئة خرافية نتنفس بواسطتها، ومن خلالها  أمكننا التغلّب على تحدّيات  جمّة طوقتنا من كل جانب، في وقت كانت الظروف أفضل من الآن، بمقاييس كثيرة.

نحاول اليوم ومن جديد، وبوسيلة الكتابة أيضاً، مقاومة الفناء في زمنٍ أقسى ومسيري دفَّة ألعن .. زمن (أغبر كما يقال) بدأ بتكميم الأفواه وانتهى بمصادرة اللقمة المختزلة بمسمى 'المرتّب'،   لتصير الكتابة مع الوقت ليس رئة جديدة للتنفس وإنما متراس دفاع أخير، وخيط نجاة للهروب من العدم والموت المجاني، الذي يتشكّل بكل لون، ويحضر في حياتنا بكل هيئة لم يتخيلها الشيطان نفسه.. الموت الذي فرض شروط تحققاته، في حياة اليمنيين، تجار الحرب وأمراء الدّم على طول الجغرافيا وعرضها، الذين يعملون كوكلاء رخيصين لأراذل المحيط والإقليم.

في تجربتي الشخصية، خلال الثماني السنوات الماضية - منذ وصلت الأزمة والاحتقانات إلى لحظة ما قبل الانفجار الكبير- اتخذت من الكتابة وسيلة للمقاومة، بإعادة اكتشاف الأشياء والناس، بعيداً عن سطوة الأدب وفضاءاته، لأن الأديب، الذي صار جزءاً من هويتي المهنية لأكثر من ثلاثين عاماً، فسح مجالات استبصار أخرى لكاتب يحاول الاستفادة من مخزون الشاعر والكاتب الأدبي، لتوظيفه في كتابات الواقع اليومي والمعاش في الهامش المهمل، بوسائل وأدوات أقرب للكتابة الصحافية منها للكتابة الأدبية.

صحيح أن الشاعر لم يعد في صدارة الحضور (نشراً وإصداراً) ، لكنه لم يُهمل مطلقاً، فلم يزل يلازمني كظلي فيما أقرأ وأكتب، حتى وإن كانت لمعته قد خفَّت قليلاً لصالح الصحافي كما قال لي أحد أساتذتي، حينما وجد انصرفاتي الكتابية ي الشأن العام تهمل الشاعر.

لا أقول إن الملاذ الصحافي كان محيَّداً في تجربتي المهنية، فقد كانت لي رحلة لا بأس بها في الإشراف على  بعض الأقسام الثقافية في بعض الصحف والدَّويات، وتوَّجتها بعملي نائباً لرئيس تحرير صحيفة "التجمّع"، التي كان يصدرها حزب "التجمّع الوحدوي" اليمني، غير أني بقيت أعتز بتجربتي المهنية كأديب، ولم أزل.

(2)

الصحافي بفضوله ورغبة الاستكشاف فيه قادني، خلال الأشهر الماضية، إلى تحرير سيرتين مهملتين لشاهدين حقيقين لأحداث كبرى مرّت بها اليمن، ولم تزل ذاكرتاهما الثمانينتان تتقدان باستعادة الصور طرية ويانعة.
ذاكرتان تستعيدان الأحداث والوقائع بمنظار غير مشوَّش،  ولا تقرآنها بمحددات مسبقة، ولا تبصرانها بسقوف متعيّنة (الانخفاض أو الارتفاع).

الأحداث البعيدة، التي تكثفت كصور لامعة، لم تزل هي ذاتها كما انتجها وقتها بظروفه، واحتفظت بها الذاكرتان بعفوية، ليعيد الشاهدان سردها كما انطبعت أول مرّة؛ لهذا صارت هذه الاستعادات بعد تحريرها وقائع تُروى بعفوية وصدق، ودون حسابات أن تغضب أسماء وأطراف لم تزل جزءاً من لعبة السياسة في البلد المتهتك بالحروب.

مثلاً، صارت عدن وصنعاء وتعز، بأحوالها تلك، في هذه المرويّات متعيّنة كحالة ثقافية واجتماعية، يمكن قراءتها  بأدوات تاريخية لتتبع التحولات التي طرأت عليها خلال سبعة عقود، وعلى وجه الدقة من النقطة التي سبقت عملية العصْرنة بنشوء البنى التحتية فيها، وما أفرزته هذه العملية من تغيير وجه المكان، وثقافة سكانه الجديدة في التعاطي مع المتاحات الجديدة في أنماط المعيشة والتعليم والتواصل.

المدن ذاتها صارت اليوم نهباً للفوضى والازدحام، وعادت إلى الاستسلام من جديد للثقافة النكوصية التي تستخدم كافة أدوات القهر للعودة بوعي الناس إلى القرون الظلامية المنتجة للخرافة، من أجل خدمة مشاريع أصحابها  في الحكم والتسلّط.

البوح بعفويته، وعدم تصنعه، رمى أمامي بمفاتيح عدّة لفهم محطات من التاريخ اليمني القريب، كما استوعبت سياقاته هاتان الشخصيتان، وأرشدني أيضاً إلى مكامن الانسدادات في سياقات التحول، فبدلاً من البناء على تراكمه الذي بدأه الرعيل الأول من المثقفين ورجال الأعمال وواجهات الوظيفة العامة من سياسيين وتقنيين، أعادت القوى المتحكمة بالسلطة اليمنيين إلى البالون المنتفخ بأمراض ما قبل الدولة والمواطنة، وبدلاً أن تسير البلاد في ركب التطور -الذي انفتحت عليه في تلكم السنوات- عادت مرة أخرى إلى الاستسلام للقوى الظلامية بمركباتها القبلية والدينية والعصبوية، والسبب في ذلك أن أدوات الحكم بقيت جزءا من هذه القوى المعيقة، أو منتفعة منها، ولم تنحزْ يوماً لمشروع التحديث بحافزاته العقلانية، رغم إبقائها على قشوره الخارجية في المعمار ووسائل المعيشة من سلع وأدوات ترفيه، اُرغم المجتمع على استهلاكها بدلاً عن انتاجها، أو حتى القبول بالقيم المعرفية التي انتجتها، إذ بقيت هذه المعرفة مرتبطة بالآخر المشيطن الكافر.


مثل تلكم الاستنتاجات يمكن قراءتها بفذلكات وتنظيرات  شديدة اليبوسة والضجيج في كتابات سائلة وثرثارة، تضع بينها وبين المتلقي عشرات الحواجز اللغوية والمعرفية، لكنها حينما تصير معرَّفة في مشافهات هاتين الشخصيتين،  وغيرها من شخصيات الظل، تكتسب الكثير من الصدق والبساطة القادرة على الإقناع.

الشخصيتان اللتان أتحدّث عنهما: حسين السفاري، الذي صار ما قاله في مشافهاته الطويلة ملموماً في كتاب سِيري صدر مؤخراً في صنعاء بعنوان "حياة تُملِّحُها الحكايات – حسين السفاري وأيامه"، وقال عنه الأستاذ عبد الباري طاهر في واحدة من المراجعات:

"كتيّب صغير حجما كبير معنى بحجم تجربة 'الحركة الوطنية و الحياة السياسية والتعليمية و التجارية'. الكتيّب ذكريات واحد من الضمائر المستترة الذي كان له الدور الحي والمشاركة الفاعلة في الانفتاح على التعليم الحديث، ومعرفة أسرار العمل الوطني والحداثي منذ النشأة الاولى.

إنه الاستاذ الجليل حسين السفاري. وحسين السفاري ذاكرة حية نقية وصادقة. يدوِّن الحكايات الشائقة والصادقة الأستاذ الأديب الشاعر والصحفي محمد عبدالوهاب الشيباني. وابن الشيباني من المغرمين بالبحث وإبراز المسكوت عنه والمتوارى في الحياة.  وقد يكون المتوارى هو الأساس بينما السائد هو الزيف، أما المسكوت عنه فهو عين الحقيقة.

احتفى الشاعر المؤصل والصحفي بالمجانين، وأجرى عدة مقابلات في صحيفة التجمّع معهم، هي من أهم المقابلات التي شهدتها الصحافة اليمنية، وتفتش عن المغمورين والمتوارين في الحياة ليكشف عن كنوز خبيئة،
أما حكايات حسين السفاري فهي سفر مدهش إلى حياة غنية، وتدوين أمين البدايات الباكرة للتعليم الحديث ورموزه، والبعثات الطلابية وروّادها، والنشاط السياسي والثقافي والأدبي، والبدايات الباكرة للعمل التجاري في مدينة عدن.

وحسين السفاري أحد الضمائر المستترة الفاعلة والحية في تجربة الثورة والحياة المعاصرة"
أما الشخصية الثانية تتمثل بعبد الرحمن غالب الحرازي الآنسي، الذي صار في مرويَّاته ومشافهاته شاهداً على تحولات مدينة صنعاء في أكثر من ستين عاماً. هذه المرويَّات، بعد تحريرها، نُشرت تحت عنوان 'ذاكرة من شجن قديم - عبدالرحمن الحرازي وسيرة الظل'، وتكمن أهميتها، وتكتسب فرادتها من غوصها في تفاصيل الأيام والسنوات التي سبقت أو أعقبت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، التي لم تقارب في الكتابات، إما تعالياً أو تجاهلاً، فجاءت لتقديم صورة مغايرة فيها الكثير من الإدهاش والصدق، وحسب ما هو مخطط له، ستكون هذه الاستعادات هي الأخرى ملمومة في كتاب خلال الفترة القادمة.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.