مقالات
محمد المياحي.. الوعي الثوري المستنير
من عادتنا القراءة في "موقع بلقيس" أسبوعيًا للمقالات، التي دأب على كتابتها بنشاط حسي وإنساني متقد محمد دبوان المياحي، الصحفي المعتقل أخيرًا من قِبل سلطة الحوثيين القمعية في صنعاء، التي اقتحمت منزله في "حي الدائري"، وأخذته من وسط زوجته وطفله، صباح يوم الجمعة.
ترمي دلالة اعتقال "الوعي الثوري المستنير" مع قرب احتفال اليمنيين بثورة 26 سبتمبر القول إن "لا تهمة لمحمد سوى: سبتمبريته".
وذلك دونًا حتى عن منشوره الأخير، الذي كان قد كتبه ليلة احتفال الجماعة بالمولد النبوي، وخص به الواقع والرأي هنا الذي مهما كانت حيثيته هو "رأي سبتمبري" بامتياز، يؤكد سبيل "الثقافة الجمهورية"، التي حملت أحد عناوين كُتب
الدكتور والباحث المقيم في باريس محمد علي زيد.
وهو نهج الخط المستقيم ذاته من سردية اليمن الثورية السبتمبرية، التي ترفض الإمامة والسلالة أيًا كان زمنها.
يتعدى اليوم الخامس من لحظة اختطاف محمد، وبينما هو يغيب عن الاحتفال بيننا بثورة 26 سبتمبر لا تزال صفحات "فيسبوك" من قِبل ناشطين ومثقفين ومواطنين
من مختلف الأحزاب والانتماءات السياسية المدنية،
التي أكثرت الكتابة والتضامن والسؤال عنه، وأرسلت التحية له كبطل سبتمبري من هذا الجيل، ناشرة بين الحين والآخر مقولات مقتطفة ومقالات أخرى كان قد كتبها الرجل، وتضاعف الفعل التثقافي حدته، في اقتباس مقولات ونشر كتابات محمد بعد أن تم حظر صفحته، التي مارست خلالها جماعة الحوثي في صنعاء، إلى جانب جريمتها المادية المتمثلة بالزج به في السجن والمعنوية الأخرى المتمثلة بتخويف كُتاب الرأي والناشطين وشباب سبتمبر، إنضافت جريمة تقنية زادت القراء فهمًا بمدى قدرة الرجل في التأثير عليها، وهزيمتها ثقافيًا.
تحوّلت صنعاء، التي لم يتغيب محمد دبوان للحظة في الكتابة عنها، والمكوث فيها كآخر الجمهوريين والمدنيين، معلنًا ثورته وغضبه على السلطة، إلى "سجن كبير" في عالم اليوم، ومنذُ 2014، لحظة اجتياح الحوثيين العاصمة وسيطرتهم على مفاصل الدولة، ولا تكاد العاصمة الفنية معمارًا وعمقًا حضاريًا، التي كتب عنها الشعراء وتغنى بها الفنانيون واحتلت المكانة الأقدس في قلوب المناضلين، أن تسلم - والعنصر الحوثي يحتلها - من اللون الأخضر، والعسكرة المجتمعية، والامتياز الوظيفي، والتراتبية والسلالية، أضف إلى ذلك عُقال الحارات الذين تحوّلوا إلى مجرد موظفين تُوكل لهم المهام المخابراتية.
كأنّ صنعاء في واقعها الآن "مستنقع منوي" خالص للسلالة، لهث الحوثي إليها زمنًا طويلاً، حتى سقطت، فبان منها وعليه كل هذا الحقد على اليمنيين، الذين لا يُنسى لوهلة من مواجهتهم "جينيًا" اعتبارًا من أنهم مواطنون يمنيون ليس إلا، وهذه أم الكوارث.
فضَّل محمد دبوان المكوث في صنعاء دونًا عن غيرها من المدن، مؤمنا بحقه في دولة تسود اليمن جغرافيًا شمالاً وجنوبًا، إلا أن حلمه لم يكن قد تحقق بعد، ومع المواجهة والصدام المباشر ضد سلطة الكهنوت قادته هذه الأخيرة إلى السجن، مصرًا على أن يعيش فيها، كما كان يعرف هو مسبقًا، حتى في السجن.
من يغيب اليوم عنا ليس محمد فقط، بل أيضًا الوعي بمشروع الدولة المدنية والأحلام الثورية والرجال المناضلون، وأهداف سبتمبر الستة، المعلن عنها في 1962، التي كان قد كتباها الشهيدان محمد محمود الزبيري، وعلي عبدالمغني.
إن محمد فكرة في التشبث بالحرية، وبفكرة تحرير الإنسان من مزاجية الحاكم المستفرد السلالي وظلمه.
نشاهد ونعرف اليوم الكثير من المثقفين والسياسين والكُتاب في صنعاء، من أولئك الحريصين جدًا على توخي النقد للسلطة، ومهادنتها بطرق عليها لمسة جبانة وصامتة في كثير من المواقف، كثيرا من الأيام نقرأ كتابات تدخلنا في حالة اللا عقل، وهي كتابات أقل ما يمكن أن توصف بالهروبية، غير أنها مكتوبة عن قصد، ومن طبيعة خوف تساكن كاتبها من الداخل، وذلك للتحاشي والنجاة من السجن، والتهم، والترصدات المخابراتية، ومختصر القول إن هذه الكتابات لا تمتلك وهج الصدامي والثوري الدائم، كما كان صاحبي.
وتجترح هذه الكتابات أساليب أدبية تحت مسمى "الرمزية"، وأخرى مدرسية نخبوية تحت مصطلح "التنظير"، وهذه كثيرة في صنعاء تستخدم خوفًا وتحاشيًا من المباشرة وإعمال المعرفة في الواقع، بحيث يمكن القول عنها أنها "كتابات صنعائية" في زمن سلطة الحوثي القمعية، ولأصحابها الحق في الحفاظ على أرواحهم وكرامتهم، ولسنا نجبرهم بطريقة ثورية على القول لا في مكان نعم، لكن هذا الإشكال "الغرامشي" يرجعنا مرة وأخرى، في موضع تعريف المفكر الشيوعي الكبير أنطونيون غرامشي للمثقف العضوي الملتزم، ودوره في الموقف واللا موقف، وهي نقطة خلافنا وتماسنا مع عديد من العقول، التي برزت لنا بنخبوية لا أصل لها في الواقع ولا في أحلام الشعب.
يعتبر محمد دبوان المياحي من أهم المثقفين الشباب، الذي كان قد أعلن في عام 2022 عن نيته إصدار رواية؛ نشر غلافها الذي حمل عنوان "الفيلسوف الصغير" في صفحته الشخصية على "فيسبوك"، قبل حذفها.
تحوي كتابات المثقف والمناضل الشاب محمد دبوان بداخلها مفردات شتى مستقاة من مدرسة الفلسفة الروحية الشرقية، التي يروح بها كاتبنا بعد أن يستوعبها تمامًا نحو قوالب كتابية تتحدث موقفًا أصيلاً وموجهًا لأكثر من حدث.
صديقي محمد دبوان رجل ثوري متقد بكل ما تعنيه الكلمة، متفلسف جيّد، وله جمهوره العام، وحسه الواعي، وأسلوب كتابي خاص به، وله صوته المستقبلي المتحد مع جوهره، الذي يذكرني شجاعة ونضالاً، لأبعد من هكذا واقع، بحالة فريدة خاصة به، ولن تتكرر.
عرفت محمد دبوان المياحي من خلال عدة جلسات، ويعرفه الكثير من الكُتاب الشباب وقُراء هُواة، بالإضافة إلى السلطة القمعية التي تعرف فيه بطولته حد الخوف؛ لذلك، لن أقارنه برجل غيره، واعتبره اليوم امتدادا لجيل أحمد محمد النعمان، ومحمد محمود الزبيري على مستوى النضال وليس الفكر والإبداع.
إن غير الموجودين في صنعاء سيقولون "خاطر الشاب بحياته"، وهذا القول ساذج بعض الشيء، نحن نرفضه، إيمانًا منا بالتشبث جغرافيًا بكل ذرة تراب في هذا الوطن، وبحقنا في الرأي الثقافي، وحقنا في الانتماء السياسي، وحقنا في الديمقراطية، وحقنا في الثورة. حقنا في الرأي الذي لا نحتاج لكتابته استئذان السلطة، ولا شرب جرعة من الحشيش المخدر؛ لنعيش في اللا وعي، وننسى فيه الحديد والنار والقيود الإمامية، التي عادت في حياتنا من جديد.