مقالات
معركة صالح الأخيرة
بعد يومين، يحل ديسمبر وهو مناسبة أخرى للحديث عن فترة حكم صالح، كما هو شهر يعيد التذكير بالمصير الذي آل إليه نظامه بصورة نهائية.
كانت معركة ديسمبر دراماتيكية في أحداثها ونتائجها غير المتوقعة، بعد أن صرع الحوثيون الرأي العام بنبأ مقتله بتلك الصورة التي انتشرت على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
أربعة أيام فقط، اختصرت مساحة حكم طويل، ظن صاحبه وأنصاره بأنه مخلد للأبد، وأنه لن يقدر عليه أحد.
بالمناسبة، ثمة وجه آخر لصالح مخبوء بين أكوام الزيف والإدعاء، وفي ما آلت إليه الأوضاع من مؤامرات وتقسيم.
من المؤكد أن صالح نفسه كان يدرك جزءا كبيرا من قتامة المشهد؛ لأنه أحد رعاته ومنظّريه الرئيسيين، حتى منذ سنوات ما قبل 2011، وهو الذي كان يحذّر من الصوملة ومن حرب أهلية من طاقة إلى طاقة.
نحن لا نتحدّث عن محلل سياسي أو قارئ جيّد للأحداث من بعيد، بل عن حاكم لأكثر من ثلاثين عاما غرز نظامه في كافة مفاصل الدولة.
صالح نفسه، عندما سلّم العلَم الجمهوري، حرص على الوقوف قليلا أمام الكاميرا لالتقاط الصورة، وتقبيل العلَم، وكان يستبطن الشر والانتقام، ويتربّص بالبلد في المنحنى التالي.
واضح أنه، أيضا، كان يستقرئ المخيال الشعبي، الذي سيردد -لاحقًا- بأنه تنازل عن السلطة، وسلّم العلَم إلى خلفه عبد ربه منصور هادي.
لكن، إليكم، بعض ما كشفته تسريبات قناة الجزيرة عن محادثاته مع قيادات الحوثيين لتسهيل مهامهم، وهي جزء يسير من نزعة الشر والانتقام.
للقارئ أن يتصوّر أن حاكما مثله اختار علي البخيتي ليعرض عليه خدمات إفشاء أسرار الدولة بعد أن عبّر له عن افتتانه بمقابلاته التلفزيونية، وعرض عليه خدماته لتزويده بما يريد الحوثيون.
ظهر صغيرا في اختياراته، وفي قصة انتقامه، وهو الحاكم المُهاب، وكذلك في فلتات لسانه، حين حذّر جماعته من عدم التحوّل إلى أدوات عند "صاحب أبين"، حسب ما جاء في تسجيلات الجزيرة، كما في تهديداته لقائد قوات الحرس الجمهوري، علي الجايفي، بحرقه، وعاده في بطن أمه.
أما قصة تسامحه وديمقراطيته، التي لم تنتج تغييرا حقيقيا على مدى عقود، كانت أصلا وليدة ظروف ومتغيّرات جاءت بها شروط الوحدة بين الشطرين.
ذات مقابلة، سُئل صالح عن سبب عدم انزعاجه من النقد والمعارضة ومساحة الحريات في الصحف، فأجاب ب"أنه قد تعوّد على ذلك".
هذا صحيح، والصحيح أيضا أنه وجد تلك فرصته المثالية لاكتساب الشرعية، واجتذاب اهتمامات الدول الغربية، ومشاكسة دول الجيران.
لقد جعل صالح من الديمقراطية والحريات الصحفية مساحة احتواء وتنفيس لأي احتجاجات في المستقبل.
هذا ليس سيئا، لكن حين تفجّرت الاحتجاجات، مطالبة برحيله في 2011، كان يعتقد أن وسيلة الاحتواء سوف تثمر مثل كل مرّة.
لعله ندم أشد الندم لسوء التقدير لأن الاحتجاجات ما لبثت أن تصاعدت وتوسعت، بحيث كشفت تماما الوجه الآخر له، وقد عبّر عن بعض منها، من خلال تسريباته مع قيادات الحوثيين.
من المؤكد أن صالح لو قُدر له الاستمرار أكثر، عقب هذه الأحداث، فسيكون نسخة مختلفة عن صالح قبل 2011.
ربما كان سيبدو نسخة مطابقة لبشار الأسد، أو أي طاغية آخر في المنطقة. سيجد نفسه في الصورة، التي ظل يتوارى خلفها، خلال سنواته الطويلة في الحكم.
قطعا، سيجد نفسه في واقع مغاير للظروف التي ساعدته على البقاء في الحكم، وسيتبيّن له أن سياسة الاحتواء لم تعد مجدية، وستبدو الردات الانتقامية الوحشية للثورات المضادة ماثلة أمامه.
يكفي أن نعلم بأنه حين لم يلحق مجددا الاستواء على كرسي الحكم، لجأ إلى التحالف مع أسوأ نسخة حاكمة لديها تاريخ طويل في مرمرة اليمنيين، وتعذيهم بالفقر والجوع والخوف.
يمكن القول إن الأحداث وضعته في أول اختبار للنذالة، فلم يتأخّر في التحالف مع الشيطان، وكان يمكن أن يفعل أكثر من ذلك.
قطعا، لو قُدر له التماسك وعدم السقوط، جراء الثورة، فستخرج من جوفه كل كمائن الغدر والشيطنة المخبوءة.
لذلك، يبدو من العبط أن نقارن الأوضاع الحالية المريعة، الناتجة عن الحرب والغدر والمؤامرات والتقسيم، التي كان هو رأس حربتها بدون منازع، بما كانه العهد السابق.
لا حظوا -مثلا- أنه، وفي ظروف استقرار مثالي متوفر على مدى عقود، مع ذلك لم يحسن الحكم، ولم يحسن الدفاع عن السيادة بعد أن انتهكت الغارات الأمريكية أجواء البلاد أكثر من مرّة، وسيطرت "القاعدة" على أجزاء من أبين، بينما اقتطع الحوثيون محافظة صعدة.
أما المؤشرات الاقتصادية فكانت دائما تأتي لتؤكد أن البلاد على حافة الهاوية.
لنتخيّل فقط ذلك الحال، فيما القرار السياسي موحّد، وتصدير النفط مستمر، والخارج منشغل به، وبدعم نظامه؛ خوفا من تبعات الفشل والانهيار، أكثر من انشغاله بدعم أية ثورات مضادة.
في المقابل، ما الذي تفعله أنت كحاكم؟ تهدد الأطراف السياسية في الداخل والخارج بإطلاق وحش الإرهاب، وتفجير القنبلة الطائفية، إذا لم تتلقى المزيد من الدعم.
بالنسبة لي، أنا أتخيّل وجه صالح الآن وهو يعيش بيننا في ظل هذه المحنة المريعة، التي تعيشها البلاد، وأتساءل: هل كان سيبدو وجهه كرجل يحمل ذرة إنسانية؟