مقالات

من الحاجة الاقتصادية إلى استقطاب السياسة! (2-2)

01/09/2023, 07:47:12

عاد كثير من المهاجرين من شتاتهم الاختياري، بمن فيهم العائدون من رجال الأعمال من المستعمرة الإنجليزية عدن، بعد قيام ثورة سبتمبر وانخرطوا في عملية بناء القطاع التجاري والصناعي (المعامل والورش) إلى جانب الاهتمام بالقطاع العقاري، وعلى أيديهم نشأت الأحياء الجديدة في المُدن التقليدية، على نحو الحي الجديد في صنعاء، الذي نشأ خارج سور المدينة القديمة، وعُرف لاحقاً بشارع علي عبد المغني وحي التحرير، حين ظهرت به البنايات الجديدة.


الحال نفسه أيضاً في تعز، حين بدأت تنشأ خارج الحيين التقليديين ( المدينة القديمة والجحملية) أحياء جديدة؛ كان أكثر اختزالا لها شارع 26 سبتمبر، الذي كان في بداية الأمر سكة موصلة بين قلب المدينة القديمة ومقر الحكم في العرضي وتخومه، قبل أن يصير عنوناً للحياة الجديدة بالمحلات التجارية، التي تعرض الملابس والكماليات والأدوات المنزلية، والمطاعم والمقاهي ومنه مقهي كوكب الشرق في أسفل العقبة، الذي افتتحه أحد العائدين من المهجر.


الأدب المعاصر والجديد في اليمن التقط الكثير من هذه الحالات، وسنكتفي هنا بنموذجين ساطعين:
الأول من رواية "تحولات المكان" حين التقط الكاتب علي محمد زيد شخصية محمد المهاجر، الذي عاد من دولة أفريقية  وكان صاحب المدرسة الخاصة الغريبة العجيبة في صنعاء، وتتشكل صورة البطل في النص بهذه الصورة الباذخة:


 "واظب في البداية للاستماع مخدراً إلى أمواج أثير بثت ذات يوم غريب في شرايين ضياعه وإحباطه للعودة إلى بلد بعيد المنال لا يربطه به سوى جيش بعوض محمل بالملاريا، ومكر وجوع يصرخ في رئات استوطنها السل، وأسراب جراد يلتهم ما تبقَّى من حياة في عروق أشجار امتصتها الشمس وشوَتها، حث الخطى مسرعاً ليشارك في المشروع الجمهوري الجديد الحالم من خلال الحِرفة الوحيدة التي تعلّمها في اغترابه وتشرّده حتى أصبح لا يجيد سواها "التعليم"، وتوسيع دائرة المُمسكين بأعجوبة "القلم" .


الثاني في قصة "الذماري"، في مجموعة "طاهش الحوبان"، الذي يعود من وراء البحار إلى صنعاء في العام 49، بعد عام من بعد الحركة الدستورية؛ شد انتباه الناس إليه ذقنه الحليق ولباسه الغريب... بنطلون و"بلوفر"... الغبار يعلوه، وحقيبته الصغيرة بيده، ومع المقهوية "وردة" يدور الحوار التالي:


"ماذا تريد عمله؟ / مترجم / واستغربت لهذا اللفظ الجديد، فشرح لها أنه يجيد عدة لغات إحداها الإيطالية التي يجيدها جيداً، ويريد أن يعمل مع الطبيب الإيطالي الوحيد في البلاد"، وقال لكاتب العامل: "أنا يمني مهاجر... عاد من المهجر... يريد العمل كمترجم يفيد بلاده ومواطنيه...و...و".


بعد ان ملَّ من الترحال "تلألأت في جفنيه ومضات النجم اليماني.... فاشتاق إلى موطنه، ذلك الوطن الجبل الكبير بحجم الدنيا كلها".
صوتان مكثفتان للحلم الذي أثقل هاتين الشخصيتين السرديتين، وارتبط في الاصل في رغبتهما في المشاركة بعملية التغيير بما يملكان من وعي.


منذ مطلع الخمسينات، أو قبلها بقليل، نشطت الهجرة (الاغتراب) في المحيط، وأنجز المهاجرون (المغتربون) بناء البنية التحتية في هذه البلدان، التي انتعشت بفعل اقتصاد الريع الذي ضاعفه ارتفاع اسعار النفط في الأسواق العالمية، ودائما  ما تتبادر إلى ذهني تجربة المقاول الشهير سعيد علي الأصبحي (أحد ضحايا أحداث الحجرية في العام 1978)، التي كثفها في صفحات قليلة في بعض من سيرة حياته التي يقول فيها: إنه بعد تركه عدن والقرية وسافر إلى السعودية عمل في جدة معلِّم بناء، وتعرف على عديد من المقاولين المعروفين في ذلك الزمن  ومنهم المقاول  الحضرمي محمد بن لادن صديق الملك عبد العزيز بن سعود، الذي سيستدعيه إلى الرياض مع مجموعة من الفنيين الذين يعملون تحت أمرته وسلمه أعمال إنشاءات متأخِّرة تخص الحكومة السعودية، لتقوده هذه العملية إلى صداقة قوية ببن لادن، الذي سمح له بعد ثلاث سنوات من الغربة بالعودة إلى قريته، التي قال إنه وصلها بظرف يوم واحد، عوضاً عن 49 يوماً استغرقته رحلة دخوله السعودية، أما كيف اختصرها ليوم واحد، فلم يشر إلى ذلك في الكتاب، وفي الغالب أن رحلة العودة تمت عن طريق الجو من الرياض إلى عدن، ومنها بساعات إلى قرية العفة  في الأصابح.


بعد أشهر قضاها في القرية عاد إلى مدينة جدة مطلع العام 1951، فأبرق لبن لادن الذي طلب عودته على الفور إلى الرياض برفقة ثمانية عمال، أوكل إليهم بعض الأعمال التي تخص الملك شخصياً، أنجزوها بفترة قياسية، بعدها استدعاه بن لادن إلى منزله ليلاً، وعرض عليه أن يعمل بالمقاولات مباشرة، دون أن يكون وسيطاً، فشرح أن لديه من المهارات والهمة والعمال ما يكفيه، وما ينقصه، حتى يصير مقاولاً معروفاً، هو المال والمعدات والأعمال، فقال له بن لادن إن راس المال والمعدات والعمل نفسه ستقوم مؤسسته بتوفيرها له، وهو ما تم فعلاً من صبيحة اليوم الثاني لهذا اللقاء حين تسلم رأس مال يستقطع لاحقاً، ومعدات تدفع أقساطها بمواعيد، أما العمل الأول فقد كان عبارة عن مزرعة دواجن كبيرة بالقرب من مطار الرياض، قبل أن يتسلم الكثير من أعمال المقاولات لبلدية الرياض ابتداء من العام 1951، وهو العام ذاته الذي بدأ فيه بتأطير العمال اليمنيين الذين يعملون معه وغير العاملين معه في جالية يمنية فاعلة، سيرأسها حتى خروجه النهائي من السعودية، بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، واستقراره في مدينة الحديدة، ليكون أحد أهم مؤسسي بنيتها العُمرانية".


أغلب المغتربين في السعودية كان حالهم الثقافي أفضل قليلا من أسلافهم الذين هاجروا إلى أفريقيا وأوروبا، وكانوا أميين تماماً، وعديمي الخبرة، ومثلوا حينها حالة انعكاس طبيعي للوضع في الداخل.. المغتربون الجُدد في السعودية، وعلى مدى نصف قرن، دفعوا أكلافاً باهظة لحالة التجاذبات السياسية، التي وصلت ذروتها في أغسطس/ أب 1990، حين تم تزفيرهم بطرق شتى، وحُرم من تبقى منهم مع أسرهم من كثير من الحقوق، وعلى رأسها "التعليم والصحة"، وهم اليوم يدفعوا ثمن توطين وسعودة المهن التي كانوا يتقنونها، فانعدمت أمام الكثير منهم فرص العمل الضئيلة أصلاً.


الأزمات المتلاحقة في البلاد، ابتداء من مطلع تسعينات القرن الماضي، أجبرت الوف الكوادر المؤهلة إلى اللجوء والهجرة إلى مستقرات جديدة في أوروبا وأمريكا وأستراليا، مسجلين بذلك الحالة الأوضح للهجرة الأكثر تأهيلا، التي صار بمقدورها الاندماج في المجتمعات الجديدة، أو على الأقل تسطيع أن تقول إن لديها  شيئاً تستطيع تقديمه لمجتمعاتها الجديدة؛ وترافقت هذه الهجرة، مع هجرة لأسباب إنسانية، ابتدأت مع مظلومية حرب صيف 1994، حين غادر البلاد عشرات الأسماء إلى مستقرات جديدة، وعلى رأسها بريطانيا.


ومع انفجار الحرب، في  ربيع 2015، غادر اليمن عشرات الآلاف من السياسيين والناشطين والإعلاميين والمثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال (إناث وذكور)، بحافزات سياسية هذه المرَّة، واستقروا في بلدان عربية وأوروبية وأمريكية كلاجئين بشكل عام، أو مواطنين جُدد في البلدات التي منحتهم جنسياتها، واختار هؤلاء المهاجرون الجُدد مستقراتهم الجديدة بعناية، تبعاً لبوصلة السياسة في هذه البلدان، وتحالفاتها التي أفرزتها طبيعة الحرب.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.