مقالات
موت عدن
لا تسمح ظروف عدن الحالية بمقارنتها بعدن الزمان الجميل،
هذا ليس تحاملا أو دعوة إلى النيل من مدنية عشقناها حتى النخاع، لكن ما ترسخ بأذهان أجيال سابقة غير ما هو واقع اليوم على الأرض.
فوضى وجماعات مسلحة وعصابات منظمة لنهب وسلب الأراضي والسطو على مساحات تابعة للدولة، أو لبعض المواطنين.
ممارسات هذه الجماعات في ظل غياب الدولة، وارتخاء قبضت القانون، تثبت أن القوى التي تهدد بتقويض الدولة والحياة برمتها ستثبت على الأرجح أنها أقوى من قدرة أي قانون أو مؤسسة في الوقت الحالي على الاحتمال.
منذ تحرير المدينة، قبل نحو عشر سنوات، من اجتياح مليشيا الحوثي والخسارات تتولى، استولت المليشيا مرة أخرى على عدن، ونحت الحياة نحو موتها بشكل متسارع،
ماتت مظاهر المدنية الطابع المميّز لعدن.
قتلت الروح العدنية الملهمة لليمنيين،
غابت نكهة البخور العدني، وانبعثت رائحة البارود،
وغط الدم مساحات ثغر اليمن الباسم.
ظلت عدن من المدن المتعالية: كانت دوما تنحو بالتعبير عن ذاتها ووجودها بتحضرها ومظهرها الفاتن: لمدينة تنام على ضفاف شاطئ بحر العرب، وتجتذب كل عيون العالم إليها،
كان أبرز ما يميّزها مظاهر المدنية، غياب السلاح.. الالتزام والتقييد بالقوانين احترام الحقوق، والأهم من ذلك كله التعايش.
اعتدنا عليها هكذا مدينة البحر والفل والحلوى والفرح،
عشقناها مدينة للشعر والفن، والرقص والبهجة والسلى،
لا مظاهر للقبيلة بمفهومها النشاز، ولا صوت لدعوات العصبية، أو يحرض على الجهوية و المناطقية.
كل هذه الآن أخطاء تقع أمام العين، ويدوخ لها الدماغ، وتضطرب النفس، حقيقة لا مبالغة -أقول- كنا عند ما نريد الهرب من مشاهد التعصب المقيت من المظهر والملبس ونبرة العنجهية في بعض مناطق البلد نلجأ إليك يا عدن،.
تجمع الناس في ساحة السجن المركزي أثناء الإعلان عن عفو قاتل الطفلة حنين،
في مشهد صاخب، حتى بعضهم ذهب إلى الرقص في حرم المرفق.
كانت لحظات هرج ومرج، لا تكشف سوى على أن الأمر كان مبيتا في مسرحية كوميدية بلهاء، وهو ما كشفت عنه ملامح القاتل التي ظهرت تقول كل شيء، على عكس والد الطفلة الذي كان يحاول التماسك، لكنه يكشف هو الآخر عن حجم ضغوطات مُورست عليه.
في اليوم نفسه، ظهر مدير أمن عدن في فيديو يكشف عن تفاصيل في حادثة عشال (ضابط الجوية، الذي ينحدر من محافظة أبين، ويعيش في عدن، حيث اختطف واختفت أخباره منذ نحو شهرين، كما ترجح المعلومات بأنه جرى تصفيته، لكنها تبقى مجرد تكهنات)، وبالعودة إلى مشهد مدير أمن عدن يتحدث عن ملابسات أحادثة اختطاف عشال، لكن لم يقل لنا المعلومة الأهم أين هو علي عبدالله عشال أصلا، بينما كشف عن تورط شخص كان يشغل مدير جهاز أمن مكافجة الإرهاب في عدن بأنه متورط بشكل مباشر مع عدد من الأسماء، التي أوردها في العرض بقضية اختفاء عشال.
لقد ابتليت الحكومة الشرعية بشيء من المحنة جرى فقدان السيطرة في عدن، خصوصا بعد الإطاحة بحكم هادي الذي أعلنها عاصمة البلاد الموقتة، وطرد قوات الحماية الرئاسية منها وإعلان ما يسمى بالمجلس الانتقالي (المدعوم من الخارج) الحكم الذاتي وتراجعه لاحقا عن الإعلان، لكنه انخرط في الشراكة بالحكومة الشرعية من خلال تعيين وزارء له، ومحافظين في بعض المحافظات جنوب اليمن، التي لم تستقر حتى اللحظة هي الأخرى بعد أن عاشت مرارات طوال سنين بالاقتتال السياسي الداخلي والفساد، واليوم يتكرر الأسلوب ذاته من الإخفاقات المترابطة..
هناك طرف يستقوي بالسلاح ويستحوذ على أغلب المكاتب التنفيذية والخدمية والأجهزة الأمنية، وهو الطرف القريب أو الموالي لرئيس المجلس الانتقالي، عيدروس الزبيدي، أو المنحدر من مناطقه القبيلة على وجه الخصوص القيادات الأمنية.
لقد ساد سلوك إساءة قادة الأمن هناك وغاب تنفيذ القانون ومارسوا استغلالا فاضحا لمواقعهم في السلطة لعدم توافر خبرة مقبولة لهم أو عدم توافر خبرة على الإطلاق،
حادثة عشال وحنين وما رافقهما ليستا سوى مجرد حلقة واحدة من مسلسل طويل تعيشه عدن، لكنه دفعني للكتابة والتذكير بواقع الحال، وربما المآل إذا ما استمر دفع المدينة أكثر نحو الهاوية، وذلك ما يجعلني هنا أتساءل دائما لماذا
تنهض حالة من الحزن الدائم، كلما مررت بموقف يسيء لهذه المدينة، وناسها الطيبين، وغالبا ما باتت هذه المواقف تصدر من ناس هبطوا على المدينة، ويعيشون فيها أو انخرطوا بشكل مباشر، أو غير مباشر في تشويه مدينة كانت باهرة باهية.
ببساطة لأن عدن كانت مدينة المدائن.. عدن المشعة التي صدّرت المدنَية والذوق والتحضر لبقية اليمن والمحيط، بل والعالم لا يمكن أن تتعلق بمدينة وتشعر بالتناقض كما تفعل بنا عدن اليوم.
لا اعتقد أنني الوحيد الذي يشعر بهذا التناقض والاضطراب الآن، بل معي كل ما آمن بحضارة عدن واحبها وتعلق بها.
أقول: إن المدن التي لا تقوى على استعادة مجدها ومكانتها لا تستحق أن نبكيها، كيف يتسق الأمران معاً، الحب والإدانة بسبب سلوك البعض فيها، يحدث هذا معنا الآن في هزّ هذه العلاقة الشرطية حتى في أكثر اللحظات تعلق بالمدينة،
تأمل كيف أن الطبيعة البشرية، في علاقتها بالمدن وطبيعتها، وبالحياة فيه، تنحو دوماً للتعبير عن وجودها، يمكنها أن تنام، تغفو، ولكن لا ترضخ أو تستغرق وقتا طويلا في الغياب.