مقالات
مونديال لن ينساه العالم
من الواضح أن قطر أنجزت نسخة مثيرة للإعجاب من مونديال كأس العالم، أكثر مما وعدت به. لم تكن عند مستوى التحدي فحسب، بل ومتجاوزة له. وهذا المستوى المبهر من التنظيم المحكم، ليس أمرًا حدث بفعل الصدفة؛ بل يعكس اشتغالا مرتبًا، وإدارة محكمة، كانت نتيجتها صدى يتجاوز كل الآفاق.
لكن السؤال الآن، يتجاوز موضوع النجاح فيما يخص المونديال. ويتركز النقاش في الفكرة الخالدة. ما الذي يمكن لهذا المونديال أن يخلفه من أثر..؟ ما البعد الخالد فيه..؟ هل هناك قيمة تبرر كل هذا الجهد والاحتشاد الذي بذلته قطر؛ كي تتمكن من تنظيم نسخة مميزة من كأس العالم..؟
بالطبع، ليس مكان تنظيم المونديال وحده هو المميز لهذه النسخة من كأس العالم؛ بل أيضًا ما رافقه من حراك يتجاوز النشاط الرياضي والفني، نحو جدالات تتعلق بتصوراتنا الكبرى عن الحياة. منظارنا الخاص للوجود. فمنذ أول يوم لافتتاح المونديال. حضر الجدل الأخلاقي والفكري، كنشاط مرافق طوال فترة المونديال. فهل هو جدل يمكنه أن يترك أثرا يتجاوز الحدث اللحظي..؟ ربما.
لربما إن هذا أول مونديال يتخذ أبعادا ثقافية وفكرية عكس كل النسخ السابقة طوال تاريخ كأس العالم. والسبب هو أنه مثل حالة من التماس بين أمم مختلفة، أمم لا تقتصر الفوارق بينها على تفصيلات جانبية؛ بل تتعداه نحو مرتكزات وجودها الأساسي. من نحن، ما هي الحقيقة، وما هو تصورنا عن العالم ومن أين نستمد هذه التصورات. ما مرجعيتنا الأخلاقية والسلوكية المركزية في هذه الحياة..؟
هذا ما جعل مونديال قطر، يتحول لمهرجان مفتوح يستدعي كل القضايا الجوهرية؛ كي يخضعها للنقاش. غير أن فتح نقاشات ذات طبيعة ثقافية وأخلاقية وفلسفية، ليس نتيجة عرضية نابعة من مكان تنظيم المونديال فحسب، باعتباره جغرافيا تحمل تصورات مغايرة للتصورات المعاشة في بقية الأمم. بل يؤشر لحقيقة أخرى مهمة.
حيث السجالات الفكرية والأخلاقية المرافقة لحدث المونديال؛ تكشف عن حيوية سياسية تتصف بها المنطقة العربية في هذه اللحظة من تاريخها. بمعنى أنها منطقة تعيش مرحلة مخاض تاريخي ووجودي طويل. أمة تحاول استكشاف ذاتها مجددا ورسم محدداتها أمام عالم متفوق ولديه نزعة لتذويب الجميع داخل تصوره العام عن الحياة.
المجتمع الغربي وبسبب سيطرته على حياته وشعوره بالاكتفاء الذاتي وعدم احتياجه للأخر. طريقته في الحياة جعلته يعاني من انغلاق ذو طبيعة خاصة. انغلاق نابع من دوران حياته حول ذاته، باعتباره الإنسان الأخير على هذا الكوكب. بحسب تعبير الفيلسوف الأمريكي الشهير . فوكوياما. بهذه الحالة، نشأ لديه توهم أن تفوقه العلمي والمعرفي، يجعل الأخر مجبرا على تقبل كل تصوراته عن الحياة. وكأن ليس من حق المجتمعات الواقعة أسفل سلم الحضارة، أن يكون لديها تصورا مغايرا عن تصور المجتمع المتقدم. مع أن هذا الوهم ليس لديه ما يبرره متطقيا. فكونك متفوق لا يلغي حق من تراه أقل مرتبة منك أن يحتفظ بنظرته الخاصة للحياة. وتحديدا فيما يتعلق بتصوراته الأخلاقية حول الوجود والحقيقة والأخلاق والأسئلة التأسيسية الكبرى في الحياة.
أمام هذه النرجسية الغربية، تمكنت قطر من انتهاج سياسة ذكية، سياسة تتمتع بمرونة فائقة في تعاطيها مع الأخر، وبالتوازي مع ذلك، اتخاذ محددات أخلاقية غير قابلة للتنازل. هذا الموقف كان بمثابة رسم خطوط تمايز بين الأمة العربية والمجتمعات الغربية. وهو تصلب لا يمثل حالة دفاعية عن المجتمع العربي وقيمه وتصوراته الأخلاقية؛ بل يقدم خدمة للأخر. أن يتخلى عن عنترياته ويبدأ بالاقتراب من هذه المنطقة ومحاولة فهمها من باطنها، أن يؤمن بها ويراها كما تتصور نفسها وليس من برجه المتعالي عليها.
صحيح لا يمكن لحدث واحد مهما كان مستوى قدرته على لفت انتباه العالم، أن يحدث انقلابا كليا في نظرة المجتمعات الغربية للمنطقة. لكنه بمثابة فلاش تعريفي شديد الوضوح وذو قدرة كبيرة على الوصول وعمل هزة ذهنية جيدة. وبالتراكم يمكن أن يواصل العرب محاولاتهم للتسلل وتصدير صورة جيدة عن أنفسهم، تزيح كل التراكمات السلبية عنهم؛ طوال القرنين الأخيرين من عمر الحضارة.
الخلاصة:
قطر قدمت خدمة للمجتمع الغربي، بأن وفرت له فرصة للاقتراب من مجتمعات مختلفة عنه. وإذا ما كان بالفعل يمتاز بتفوقه عقلي ونراهة منطقية؛ يمكنه أن يستفيد من هذه الفرصة ليفتتح نقاشات جديدة مع انسان المنطقة العربية والعقل السائد في هذه البقعة الجغرافية من العالم. ليس من أجل فهم طبيعة تفكير مجتمعاتنا العربية؛ بل ليعيد المواطن الغربي تنشيط وعيه بذاته. ولعل من المفيد هنا استحضار الفيلسوف الفرنسي الشهير: ليفنياس. هذا العقل الذي بذل جهدا كبيرا، ليلفت انتباه المجتمعات الغربية نحو الأخر، وخفض حالة تمركزها حول ذاتها. حيث يقول إن الإعتراف بالأخر شرط أساسي لقيام علاقة أخلاقية معه، بل شرط يسبق علاقة الذات بالوجود. أي أنك أيها الغربي لن تستطيع فهم وجودك، وتطوير نظرتك للعالم، بدون المرور بالأخر الغريب واستكشافه في ذاته والإيمان بأصالته.
" في لحظة اللقاء مع الآخر الغريب عني، البعيد عني، الذي ليس أنا، في لقائنا وجهاً لوجه، في مناداته لي واقترابه مني، تتجلى الأخلاق الإنسانية في مراعاة مسؤولية الذات تجاه الغير، فالآخر "وجه الوجه"، لا هو بالظاهرة الغريبة، ولا بالظاهرة المضادة. هذا ما يفترض أن يوقظه حدث المونديال في ذهن المواطن الغربي. فالعرب ليسوا مجتمعات غريبة ولا هي تموضع نفسها كنقيض كلي للغرب. بل حالة وجودية لها خصائصها وصفاتها الذاتية وما يميزها وهو أمر لا يتنافى مع كونها تعيش مؤمنة بمشتركاتها الوجودية مع العالم كله.
يقول ليفيناس في هذا الاطار: " حين ألتقي بالأخر، يفرض الوجه ذاته علي، فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه أو تجاهله ونسيانه، لا أستطيع أن أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه"، ويضيف " أن أكون أنا، ذلك يعني عدم القدرة على التهرب من المسؤولية"، فالمسؤولية كما يحددها ليفيناس هي هوية الذات الجديدة التي تضع نفسها في خدمة الآخر، وليست لي الحرية في الهروب من المسؤولية تجاهه. ولعل حدث المونديال يرفع من احساس الغرب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان العربي، مسؤولية تتجاوز تلك الأدوار الدبلوماسية الشكلية الباردة، وترتفع لتغدو مواقفًا أكثر صلابة، تتحرك بدوافع أخلاقية جادة وتهدف لوضع حد لحالة اللامبالاة الغربية تجاه قضايا المنطقة. أو التلاعب السياسي بها.