مقالات
ميلاد جديد للشرعية
منذ ما يقارب سنتين إلى ثلاث سنوات، كانت معركة استعادة الدولة اليمنية قد دخلت طورا من الجمود، حالة اللاسلم واللاحرب، باستثناء مناوشات هنا وهناك لا تكشف عن أي أفق عسكري جديد ممكن للخلاص، بالتوازي مع المعركة المعطلة، لم يكن هناك أي مؤشرات لنافذة سياسية محتملة أو تسوية ممكنة في ظل جمود داخلي ووضع إقليمي لم تنضج فيه بعد أي شروط تهدئة بين المحاور الإقليمية المتصارعة، على اعتبار الصراع في اليمن مرتبطا بالبُعد الإقليمي وبما يجعل فكرة تسوية الملف اليمني شبه مستحيلة بمعزل عن التفاهمات الإقليمية.
طوال سنوات جمود المعركة، فقدُ الناس أي أمل ممكن بالخلاص، وانفجرت صراعات جانبية في معسكر الشرعية ضاعفت من هشاشة الدولة هناك، ورفعت درجة إحباط الناس وخيبتهم من الوضع العام، لجانب تلاشي ثقة الجمهور بالشرعية، حتى مع كونهم في أوج سخطهم على الحوثي.
هذا الوضع المعطل كان مريحا للحوثي، وراح يصدِّر نفسه كطرف مؤهل للحكم، أو لنقُل ذهب يستثمر في أزمة الشرعية ويستغل ارتباكاتها ليتحصل على مشروعية عملية يستقيها من فشل خصومه في تطبيع الوضع في المناطق المحررة، مقابل نجاحه في فرض سيطرة شاملة وإخضاع المجتمع الواقع تحت سيطرته، بطريقة شمولية تحقق استقرارا نسبيا جيدا، كونه الطرف الوحيد المتحكم بكل تفاصيل الحياة في مناطق سيطرته.
إلا أن هذا الزمن المريح للحوثي، يبدو أنه قد بدأ بالتلاشي مع بداية العام الجديد، مقابل ميلاد مختلف وانبعاثة جديدة لخصوم الحوثي، والمقصود هنا الشرعية بالطبع.
فمع بداية العام ووصول رئيس جديد للولايات المتحدة، كانت البداية إلغاءه تصنيف الحوثي 'جماعة إرهابية'؛ لكن هذا الإلغاء لم يكن حدثا مهما للحوثي على الصعيد الداخلي، بقدر ما اتجهت الأمور بطريقة معاكسة، كان الحوثي هو المتسبب بها.
انفتحت شهية الحوثي بعد إلغاء قرار تصنيفه ك'جماعة إرهابية'، وذهب يفكر في ابتلاع مأرب، غير أن هذه الشهية لم تكن سببا مباشرا لطموحه هذا، فالدافع كان أكبر، حيث الجماعة ترغب بمضاعفة وضعها المريح، وتوسيع نطاق سيطرتها، وبما يقلص من وضع الشرعية ويرفع من تفوق الحوثي سياسيا وعسكريا، كما أن الثروة كانت هدفا، وخدمة الحليف الإيراني هدف إضافي وأساسي أيضا.
صمدت مأرب، لم ينتهِ الخطر المحدق بها تماما، لكن بدا أن موازين القوة تكاد تنقلب كليا، تحركت تعز، وفي حجة حدثت مباغتة موجعة للحوثي، وبدأت الأجواء تتجه نحو الحديدة، والأكثر أهمية من ذلك، استعادت القوى المناهضة للحوثي خطابها الموحّد، كما أن الزخم الشعبي المحتشد حول الشرعية تجلى بصورة مبهرة ودافعة للحماس لمواصلة المعركة.
رغم الخذلان العميق الذي شعر به الناس من وضع الشرعية وأدائها طوال سنوات جمود المعركة؛ غير أنه من الملفت أن الجمهور سرعان ما يستعيد احتشاده جوار الشرعية مع أول تحرك حقيقي لها، ما يكشف عمق رغبة الناس بالخلاص من الحوثي ودرجة نبذهم له.
يشعر الناس بوعيهم العام أن الشرعية تظل الطرف الوحيد الذي يحمل بذور دولة ممكنة، ويصطف في داخلها القطاع الأعظم من النخبة اليمنية الممثلة لفكرة الدولة، بصرف النظر عن كل الملاحظات حولهم، وكل أخطائهم والشقاقات العميقة بينهم.
الشرعية اليوم أمام ميلاد جديد، حيث الزخم الشعبي في ذروته، والتأهب العسكري يتجلى في مستوى جيد، كما أن المعركة التي يخوضها الآن تبدو متحررة من الكوابح الإقليمية، التي كان التحالف يضعها في طريقها، وبما يمنح الشرعية مساحة حركة أكثر استقلالية، ويعيد إليها دفة القيادة لصناعة مصيرها.
الحوثي مرتبك، ومغامرته العنيفة في مأرب خلقت ارتدادا عكسيا مساويا لهجمته في مأرب، وأظهرت هشاشته المدعاة، فالحوثي لا يستطيع خوض معارك متعددة بالقوة نفسها في اتجاهات مختلفة، والوضع العسكري المعطل الذي كان يساعده في تحشييد قوته في اتجاه واحد، يبدو أنه قد انتهى، حيث الرمال تتحرك من تحت قدميه في مناطق شتى، والأيام المقبلة ستكشف مزيدا من هشاشته فيما لو استمرت الشرعية بنفس الدفع لمواصلة القتال ضده.
الخلاصة: تبدو المعركة الراهنة ضد الحوثي كأنها الهبة التاريخية الثانية في مسيرة الكفاح الوطني، بعد الهبة الأولى التي حدثت في بداية معركة استعادة الدولة، مع فارق أن قوة الأطراف التي تواجه الحوثي الآن باتت أكبر بكثير من قوتهم في لحظة المواجهة الأولى.
إذا فرطت الشرعية بهذا الزخم المتصاعد في معركة استعادة الدولة، فلا أظن أن الزمن سيمنحها فسحة ثالثة لاستعادة زمام المبادرة ومواصلة هدفها لكسر الحوثي وفرض معادلة جديدة على الميدان، تعيد للشرعية حضورها وترمم الفجوة بينها وبين الجمهور وتعزز من ثبات مشروعيتها كطرف مركزي وممثل لمشروع الدولة أمام الشعب والإقليم والعالم.