مقالات
هل دخلت أمريكا دور الانحطاط؟ (2)
ما رآه المفكر قسطنطين محقًّا بأنه غيرُ كافٍ، وليس بالمعيار الأساس للحكم بالرقي أو الانحطاط، أدركه مفكران مهمان؛ هما: مايكل هاردت، وأنطونيو نيغري في كتابهما «الامبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة»، ترجمة فاضل جكتر؛ من حيث دراسة نشأة الإمبراطورية، وعمق مسارها وتطورها، وصولاً إلى العولمة الجديدة بمنهج علمي، وبحث حداثي دقيق وشامل.
ويتناول الكتاب الضخم في 592 صفحة، فيما يتناوله، «قوة التشابك»، وسيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والإمبراطورية الجديدة.
ويتساءل المفكران: “كيف يمكن للعبودية والاستعباد أن يتطابقا تطابقًا كاملاً في الإنتاج الرأسمالي؛ وهما آليتان تعرقلان حركة قوة العمل، وتجمدانها في مكانها؟!”
ليست العبودية وسائر الأشكال المختلفة للتنظيم القسري للعمل من الكولييه (العتالة) في المحيط الهادي، والبيونية (السُّخَرة) في أمريكا اللاتينية، إلى الفصل العنصري (الآبارتهايد) في جنوب أفريقيا، إلا عناصر جوهرية كامنة في عمق عمليات التطور الرأسمالي”.
يضيف الكتاب: “في هذه الفترة تعانقت العبودية مع العمل المأجور مثل شريكي رقص عبر الخطوات المنسقة للتطور الرأسمالي”. (ص 191).
ويتحدثان عن التناقض بين الإمبريالية الملأى بالأثلام والنتوءات من جهة، والفضاء الأملس الممهد للسوق الرأسمالية العالمية من الجهة المقابلة، مما يمكننا من امتلاك وجهة نظر جديدة تتيح لنا فرصة إعادة معاينة نبوءة روزا لوكسمبورغ من الانهيار الرأسمالي قائلة: على الرغم من أنَّ الإمبريالية هي الوسيلة التاريخية القادرة على إطالة الرأسمالية، فإنها الوسيلة المؤكدة أيضًا القادرة على وضع حدٍّ سريع لهذه الرأسمالية”.
ويصلان إلى القول: “لقد أصابت روزا لوكسمبورغ كَبِدَ الحقيقة حين قالت: “إنَّ الإمبريالية مرشحة لقتل رأس المال إذا لم يتمَّ التغلب عليها. فالتحقق الكامل للسوق العالمية إنْ هو بالضرورة إلا نهاية الإمبريالية”. (ص 482).
يدرس المفكران نظرية تأسيس الإمبراطورية، معتبريَن أنها نظرية انحطاطها، كما يراه منظرون أوروبيون منذ آلاف السنين.
ويدرسان انحطاط الإمبراطوريات القديمة، وبالأخص الأوروبية وأزمتها الشاملة قبل هروب المثقفين منها إلى أمريكا؛ لإعادة اكتشاف «الفردوس المفقود»، ويقرآن التضحية بالحرية في التجربة السوفيتية، وبعض الغموض في قراءات غرامشي، والفوضى في أيديولوجية سولجنستين، ونهاية التاريخ ما بعد حداثية.
ويريان عجز أمريكا عن تجاوز الأزمة، كما يدرسان الأزمة والنشوء، وتعذر استخدام الخوف كمحرك للتاريخ حسب اقتراح هوبز، و[كنهج وممارسة بايدن وترامب]. (الكاتب).
ويريان في الفساد النفي للنشوء، وأنَّ الفساد في الإمبراطورية الأمريكية حجر الزاوية، والركيزة الأساس بالنسبة للسيطرة والتحكم، ويشمل كل شيء.
يتخذ الفساد عددًا كبيرًا جدًا من الأشكال، مما يجعل السعي في وضع قائمة بها أشبه بسكب البحر في فنجان”.
يدرسان الفساد في أربع مجالات: الفساد كخيار فردي؛ سوء استخدام السلطة. وثانيًا: فساد نظام الإنتاج. فعظماء الملوك ليسوا -كما يقول القديس أوغسطين- إلا نُسخًا مضخمةً من لصوصٍ صغار.
وثالثًا: في نمط أداء الأيديولوجيا، أو في انحراف المعاني في التواصل اللغوي.
ورابعًا: حين يصبح تهديد الإرهاب في ممارسات الحكم الإمبراطوري سِلاحًا لحل نزاعات محدودة أو إقليمية، وأداة من أدوات التنمية والتطور الإمبراطوريين.
يخلصان إلى: “لا بُدَّ للمعرفة مِنْ أنْ تصبح فِعْلاً لغويًّا، كما لا بُدَّ للفلسفة مِنْ أنْ تُصبحَ عمليةَ استعادة حقيقية للمعرفة.
الآلات والتكنولوجيا ليست كيانات محايدة ومستقلة؛ إنها أدوات سياسية حيوية موظفة في أنظمة إنتاج معينة تيسر ممارسات معينة، وتُحرِّمُ أخرى.
يجد الجمهور نفسه أشبه بآلة. ويريان في عملية العبور من الصراع حول معنى اللغة إلى بناء منظومة آلات جديدة تكتسب الغائية قدرًا أكبر من الاطراد والثبات. يساعد هذا الجانب الثاني من جوانب الغائبة على جعل ما تم بناؤه لغويًّا قادرًا على أن يصبحَ تقدمًّا جسديًّا دائمًا للرغبة في ظل الحرية. لم تعد عملية تهجين البشر والآلات تتم فقط في أطراف المجتمع وهوامشه؛ لقد باتت بالأخرى حدثًا جوهريًّا في قلب عملية التأسيس للجمهور وسلطته. (ص 574).
يصلان إلى الرأي: “بتنا الآن قادرين على صياغة مطلب ثالث للجمهور؛ ألا وهو حق استعادة وسائل الإنتاج؛ طالما ظل الاشتراكيون والشيوعيون يطالبون بتمكين البروليتاريا من التمتع الحر بحيازة الآلات والموارد التي تستخدمها لتنتج؛ فضلاً عن التحكم بهذه الآلات والمواد.
غير أنَّ هذه المطالبة التقليدية ما لبثت في سياق الإنتاج اللامادي والسياسي الحيوي أن ارتدت ثوبًا جديدًا. فالجمهور لا يكتفي باستعمال الآلات للإنتاج؛ بل ويصبح هو نفسه آليًّا بصورة متزايدة مع تزايد اندماج وسائل الإنتاج بعقول الجمهور وأجساده وتوغله فيه. وفي هذا السياق؛ فإنَّ استعادة الحياة تعني التمتع بحرية الوصول إلى التحكم بالمعارف والمعلومات والاتصالات والمشاعر (العواطف)؛ لأنَّ هذه هي بعض الوسائل الرئيسية للإنتاج السياسي الحيوي.
«كتاب الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة»، لعالمين وباحثين؛ هما: مايكل هاردت؛ وهو ناقد أدبي وفيلسوف ومفكر سياسي، وأنطونيو نيغري؛ اسبينوزا، وعالم اجتماع، وفيلسوف يساري. وقد درسا بعمق وتوسع الإمبراطورية في المراحل التاريخية بأبعادها المختلفة، وبالأخص الأمريكية.
والكتاب إجابة على السؤال الذي طرحه المفكر زريق؛ بل يمثل إجابةً على سؤال اليوم حول مؤشرات انهيار الإمبراطورية الأمريكية.
ولعلَّ انتخاب ترامب، والممارسات الهمجية، والاستهانة بالدستور الأمريكي، والرأي العام، والقضاء، والصحافة؛ والأخطر الانخراط في حروب الإبادة، والسخرية بالأمم المتحدة والشرعية الدولية ومؤسساتها ما يؤكد ما يطرحه الكتاب المهم.
واليوم، وبعد مرور عقدين ونيف على صدور كتاب الإمبراطوية، ومقال المفكر القومي زريق، فإنَّ معالم الانحطاط كسؤال زريق، أو الأزمة وملامح الانهيار كقراءة الباحثين: هاردت، ونيغري تبدو أكثر جلاءً.