مقالات

هل هذا وجه الثورات أم وجه الأنظمة الساقطة؟

28/01/2021, 18:06:59

مرّ عقد كامل على ثورات الشعوب، عقد كان هو الأصعب والأكثر دموية وسوداوية منذ ما بعد رحيل الاستعمار عن المنطقة، وسيطرة أنظمة استبدادية على السلطة. كان رحيل المستعمر بمثابة تحرر وطني كبير، استعادت فيه الدول العربية حقها السيادي في التحكم بمصائر شعوبها؛ لكنه تحرر لم يفضِ إلى دولة حقيقية لكل الناس، بقدر ما أنتج أنظمة مشوّهة أزاحت المستعمر الخارجي واستبدلته بقبضة حديدية داخلية.

عقود كثيرة مرّت منذ رحيل المستعمر، حتى وصلت الأنظمة العربية الوريثة للحكم إلى حالة من العطالة الشاملة، كانت الأنظمة قد استنفدت عوامل بقائها، ولم تعد قادرة على تقديم شيء لمجتمعاتها، فهي لم تستنفد قدرتها على العطاء فحسب، بل استنفدت حتى مبررات وجودها، حيث كل اللافتات، التي رفعتها واستمدت منها شرعية وجودها، كانت قد أضحت شعارات فارغة من المضمون وغير قادرة على إقناع أحد بمصداقيتها.

والحال هذا، لم يعد هناك من مخرج سوى انتظار حدث من خارج السلطة قادر على خلخلة الوضع المسدود، وإعادة ضخ الحيوية إلى الحياة السياسية والاجتماعية المتجمّدة، ومع تراكم عوامل القهر والبطالة والتهميش والمستقبل المجهول، كانت المجتمعات تحمل في أعماقها كل عوامل الانفجار ولم يتبقّ سوى انتظار الشرارة الأولى، والشرارة هنا هي حدث عابر يكون بمثابة عود الثقاب الذي يكشف هشاشة الواقع ويعرّي ما هو مدفون في الأعماق.

عقد كامل مرّ منذ سريان شرارة الثورات العربية في جسد الدولة الرّخوة، لكن هذا العقد بكل ما حمله من أهوال وخيبات ومذابح وانتكاسات ومؤامرات وتحولات عديدة في كل مكان، لم يكن تعبيرا عن روح الثورات بل انعكاس لدرجة بشاعة الأنظمة ومدى تجذّرها في الفساد واستعدادها للذهاب حتى النهاية في مواجهتها ضد مطالب الشعوب.

لقد تأسست الدولة العربية على حكم سلطوي قائم على تطويع المجتمع وفرض نظام قسري عليه، بحيث تكون الدولة هي المهيمنة على كل مفاصل الحياة، وتلغي دور المجتمع في الحياة العامة، وفي أفضل حالاتها تمنح المجتمع هامشا ضئيلا للحركة، وتستأثر بكل عوامل القوة والسيطرة.. بمعنى أن أحد أهم عوامل استقرار الأنظمة هو تقييد المجتمع كضمان لديمومة السلطة.

هذه الطريقة في الحُكم كانت نابعة من خوف السلطة من المجتمع، فهي تعلم أن أي مساحة واسعة للحرية سوف تنتهي بإزاحة السلطة واستعادة المجتمع دوره الفاعل، كونها سلطة لا تعبّر عن مصالح المجتمع بقدر ما ترعى مصالح أقلّية سياسية وطبقية حاكمة، وتهدر مصالح الأغلبية.. هذا الوضع المختلّ هو ما حاولت الثورات العربية إعادة تصحيحه، حين خرجت وطالبت بإسقاط الأنظمة، داعية إلى إعادة تأسيس علاقة صحيّة وسليمة بين الدولة والمجتمع قائمة على ضمان الحرية والعدالة في توزيع الثروة والسلطة.

خرجت الشعوب لمطالب نبيلة، حتى الأنظمة نفسها لم تجرؤ على إنكار عدالة القضية، إلا أنها في الوقت نفسه لم تتنازل عن أطماعها في استمرار السيطرة، ولم تذعنْ لمطالب الشعوب بسهولة. تعددت طرق المواجهة بين الشعوب والأنظمة المتهالكة؛ لكن النتيجة المتحققة كانت متقاربة، خراب كبير في الحياة العامة في كل الشعوب الثائرة، باستثناء نموذج أو اثنين نجا نسبيا من الكارثة، وما يزالان في حالة تذبذب، ومحاولة مستمرة للنجاة الشاملة.

اليوم، ونحن في نهاية عقد كامل منذ انطلاق الثورات، ونفتتح عقدا ثانيا، يبرز السؤال الكبير والمتجدد: هل هذه المآلات البائسة التي وصلنا إليها هي نتيجة مباشرة وحتمية لحراك الشعوب ومطالبها بالتغيير أم خيار متعمد اقترفته الأنظمة الساقطة بسمعها وأبصارها..؟

لا شك أن هذا المآل البائس، الذي نعيشه اليوم، لم تصنعه الثورة، بل هو نتاج مباشر لفعل القوى المناوئة للثورة. ولهذا فإن أخطر فكرة تدين الثورة وتشوّه صورتها هو إعادة النظر إليها من زاوية مآلاتها، أو ما آلت إليه الأمور بعدها، فمآلات الثورة القريبة لا تنتمي إلى جوهرها دائما، ولا تمثل أهدافها غالبا.

صحيح أن الثورة تُفجر الحدث، لكنها ليست هي من تقود ما بعده من تداعيات أو تتحكّم بمساره، وحين ننظر إلى الثورة من زاوية نتائج الارتداد عليها؛ فنحن نسلّم -ضمنيا- بأن الواقع المختلّ والخراب الحاصل هو صنيعة مباشرة للثورة، وهذا إقرار خطير بدعاوى خصوم الثورات، القائلة إنها مسؤولة عمّا حدث، بينما الأمر ليس كذلك.

الخلاصة: إن ما نعيشه اليوم لا علاقة له مطلقا بما خرجت الشعوب من أجله، لقد احتشدت كل القوى المناهضة للثورات وخلقت أحداثا جديدة ومنفصلة عن حدث الثورة، فجّرت مشاكل جديدة، واختلقت أزمات أخرى، وكانت النتيجة انفجار قضايا مختلفة حرفت مسارات القضية المركزية للشعوب. والأكثر وقاحة من ذلك أنها لم تتردد عن تحميل الشعوب نتائج الكارثة التي صنعتها هي؛ كي تنجو من مسؤوليتها في إغراق أحلام الشعوب بالدّم، وطمس القضايا الأساسية، التي خرجت الجماهير من أجلها أول مرّة.

هذا الخراب الكبير، الذي تعوم فيه المنطقة، لا يشبه الصورة الحضارية للجماهير، التي تدفقت في تونس والقاهرة ودمشق وطرابلس وصنعاء بداية العقد الماضي، تلك الجموع الملهمة كانت أعظم تعبير تاريخي عن روح الشعوب المتمدّنة.

أما ما نعيشه اليوم فيشبه كثيرا وجوه الأنظمة والطبقة الحاكمة الوارثة للسلطة، أولئك الذين أشعلوا النيران في شوارع البلدان؛ كي يدينوا ثوراتها، ولم يعلموا أنهم بذلك يستكملون بقايا زمنهم البغيض، ويختمونه بأسوأ مشهد، والنتيجة ليست استدامة بقائهم إلى الأبد، بل إطالة كلفة التغيير، فما من قوة قادرة على إعادة النّظم العربية إلى ما كانت عليه قبل انفجار الثورة.
 لقد ذهبت الأنظمة القديمة إلى غير رجعة، وانفتحت حقبة تاريخية جديدة، ستأخذ فترتها في السيولة، وسيولد نظام جديد بعوامل مختلفة وفاعلين جدد، لعلّ أهم ما فيه هو أنه تعبير عن روح الثورات وتأسسٌ على قيمها، التي نادت بها الشعوب أول مرّة.

مقالات

برفقة شوبنهاور.. حين يكون اليأس دافعًا أصيلًا للحياة

اليوم الثالث برفقة شوبنهاور، كان اسم هذا الفيلسوف في ذهني، يجلب معه إيقاع "الشوكة". يبدو كئيبًا ويعدك بالقنوط، ولهذا تأخرت في الإصغاء إليه. كنت بحاجة إلى التهيؤ له، ترقُّب تلك الحالة الذهنية الجسورة للاقتراب منه

مقالات

بيع الوطن بالتجزئة

أصبحنا، ونحن ننظر إلى الوطن اليوم، وكأننا ليس في وطننا بل في وطن يمتلكه مجموعة من الناس، الذين يحكمونه بالحديد والنار، ويمتلكون فيه كل شيء؛ من الهواء والطُّرق والسواحل والخطوط الطويلة بين المدن، وكأنهم يملكون الشروق والغروب والهواء والمطر.

مقالات

مقالة في الشعر

هنالك أشخاص يكتبون الشعر، وشعراء يحصلون على الجوائز، وشعراء يتم تكريسهم كأسماء رنانة، وشعراء يتم ترويجهم عبر أجندات وجماعات؛ كل ذلك لا علاقة له بالشعر. كثيرون بلا عدد يكتبون الشعر، لكن الشعراء نادرون.

مقالات

حكاية المُسَفِّلة غيوم عالم (2)

كانت المُسَفِّلَةُ غُيُوْمْ عَالم تدرك بأن عليها لكيما تضمن حرية التنقّل بين العالمين وتمارس مهنتها كمُسَفّلة أن تحتفظ بعذريتها فلا تتزوّج ولا تدع أحدا يقترب منها باسم الزواج، أو باسم الحب، ولأنها جميلة كان هناك من يحوم حولها ظنا منه بأنها، وإن كانت ترفض الزواج، لن ترفض الحب، وكان أولئك الذين خابت آمالهم في الزواج منها يأملون أن يصلوا إلى بغيتهم عن طريق الحب

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.