مقالات

هل يؤثر "الدعاء" في حياة البشر..؟

23/03/2024, 11:36:45

تُخيفني ثقة العلمانيين حين ينطقون بحكمٍ ما. من أين للعقل تلك الجُرأة أن يتخذّ موقفًا تجاه أي فكرة، وبتلك الصورة القطعية..؟ ما من نصّ سماوي يستندون إليه؛ لكنهم يتصرّفون بثقة عقلية تُسيء لمبدأ العقل نفسه. أحدهم بدأ واثقًا من فكرته بشكل نهائي، سخِر بشراسة وفوقية ممن يرددون أدعية ترجو النصر من الله. ما هذه الأوهام التي يغرق فيها المتدينون..؟ لكنه نسي أنّه يغرق في وهم آخر في الضفة المقابلة.

نموذج عقلاني آخر بدأ مهذبًا، وحاول استكشاف مدى امتلاك المؤمنين بالدعاء لفلسفة منطقية تُبرر إيمانهم هذا، أراد فتح نقاش مع أحد المطالبين بالدعاء لإخوانهم المنكوبين؛ لكن المؤمن هنا غضب بشكل عاطفي؛ معلنًا ألا حاجة لديه ليشرح لماذا هو مؤمن بالدعاء..؟ يبدو أن النموذج العقلاني المتسائل أكثر احترامًا للفكرة ممن سخِر منها مباشرة. مشكلتنا مع هذا الأخير فحسب.

أمامك متدين يثق بأثر الدعاء بشكل يقيني قاطع، وغير قابل للمراجعة، ولا مستعد لشرح إيمانه، ويقابلة علماني، عقلاني، لا ديني، سمِّه ما شئت. المهم أنّه يسخر من الدعاء بطريقة واثقة من موقفه، وبيقين بسخافة المؤمنين غير قابلة للمراجعة. أستطيع تفهُّم طبيعة موقف المؤمن؛ لكني أظلّ حائرًا أمام دعاوى المنطقيين، من أين للمنطق الشجاعة لنفي جدوى فكرة ما "الدعاء" مثلًا..؟ أليس في نفي الفكرة -مهما كانت خرافية- مصادرة للمنطق..؟ ثم ما هذا المنطق الذي يحتكر الفهم البشري، ويفرض حجْرًا على كل فكرة لا يفهمها؛ بل ويرفض أي حق أو إمكانية للنقاش حولها..؟

يتحول العقل بكل ما أنتجه من أدوات ومفاهيم -كمحاولة لتشخيص ظاهرة الوجود- إلى صنم مماثل تمامًا للأصنام الخرافية. فلم يعد "المنطق" حزمة من التصورات الذهنية المحدد، أي مجرد نظام عقلي يجتهد لتفسير العالم؛ بل يغدو هو المنظار البشري الوحيد، المالك الحصري الأوحد للحق في فهم العالم؛ مستبعدًا بذلك أي احتمالية لوجود منظار موازٍ، وخارج المنطق، ويملك الحق ذاته في الاجتهاد بهدف فهم العالم.

منذ قرون عديدة؛ تمكّن "المنطق" الأرسطي أن يهيمن على مسار المعرفة البشري؛ قامعًا أي محاولة لتفسير العالم من خارج أدوات المنطق. هذا السلوك العقلي المستبدّ؛ ليس نهجًا يهدف إلى حماية الحقيقة من عبث الخرافات؛ بل أسلوب يفضي إلى إفقار البشرية من أي مساحات ثرية يمكنها أن تتخلّق خارج هيمنة المنطق.

بوضوح أكبر، جرى استبعاد متعمّد للمنهج الروحي في فهم العالم، وتعرضت كل المحاولات التفسيرية ذات الطبيعة الروحية لتهميش متعمّد. هذا القمع هو نتاج طبيعي وموازٍ لهيمنة الرؤية المادية للعالم. لهذا أصبح "المنطق"، وتحديد ما هو منطقي مما ليس كذلك، أشبه بسلاح يُشهر لتنميط ووصم كل منهج آخر؛ باعتباره لغوا بدائيا، وربما الذهاب أبعد من ذلك، والتحذير من كل فكرة روحية باعتبارها "شعوذة" يتوجب تطهير الحياة منها.

لم يتخلص العقل الإنساني من فكرة الدعاء تمامًا، بما في ذلك العقل العلمي الخالص. حتى مع استبعاد كل المعاني الدينية بصيغتها المباشرة. لكنه ما لبث أن طفق يبحث عن تصورات موازية تحمل المعنى ذاته. حاولوا التخلص من الروحانية الدينية، وذهبوا يخلقون ملاذاتهم الخاصة المتجاوزة للعقل. ما يؤكد حاجة الإنسان إلى الحفاظ على علاقة بالبُعد الغيبي، وربّما حاجته إلى مساحة لا منطقية في الحياة، لكأنّه يعترف بشكل ضمني أن الجانب السحري من الحياة مؤثرٌ مهما زعم العقل بطلانه، ونجح في البرهنة على ذلك.

الخلاصة:

الحياة واسعة، وكلّ من يملك وعيًّا كليًّا بماهيّتها يدرك قابليتها لاحتضان كل شيء. لربّما تبدو حقيقة علمية، عديمة الجدوى في تأثيرها على الفرد. بالمقابل يمكن ليقين روحي أن يغدو بمثابة محرض رهيب، يدفع الفرد لفاعلية قصوى، ويهبه قوة باطنية وثباتا نفسيا، تعجز عنه كل المعارف الأخرى.

لا تستطيع كل معارف الكون أن تنفي كل ما يقوله المؤمنون عن أثر الإيمان في حياتهم. لا تملك الفيزياء أي سلطة عقلية لتجرد المؤمنين من ادعاءاتهم، أو تدعي بطلانها.

يمكن للعقول العلمية مواصلة سرد براهينهم، والقول بخرافات الدعاء، وسائر النشاطات الدينية، لكنها مع ذلك ستواصل حضورها، إنها لا تستمد شروط بقائها من أي حجاج عقلي. فالدعاء والإيمان بشكل عام، يقعان هناك، فيما وراء السلطة العقلية، ويحتفظان بقوتهما التأثيرية على امتداد الزمن، وما دام هناك حياة على هذه الأرض سيظل هناك حاجة إلى الأديان، وسيظل هناك بشر يؤدون الصلوات ويبتهلون.

تلك طريقتهم لمدافعة الشرور، وصيانة نفوسهم من التفكك، وحياتهم من فقدان الغاية. فجوهر الدعاء هو احتفاظ المرء بالرّجاء، رجاء غدٍ أكثر أمانًا من الأمس.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.