مقالات

أبو الرُّوتي (35)

14/05/2025, 11:48:39

كان الطلاب في كلية "بلقيس" ينقسمون عند كل دعوة للتظاهر إلى قسمين؛ قسم يعارض الخروج في المظاهرة، ويقول إن الدراسة أهم وأكثر فائدة من الخروج، وقسم يرى أن الخروج في المظاهرة أهم من الدراسة. وكان هؤلاء يخوِّنون الطلبة والمدرِّسين الذين يعترضون على خروجهم، ويخوِّفونهم، ويتهمونهم بأنهم إما جبناء أو عملاء.

وبالنسبة لي، وبسبب كراهيتي للدراسة، وشعوري بالاختناق داخل الفصل، فقد كنت أجد في المظاهرات متنفساً ومناسبةً للهروب من كآبة المدرسة، ومن رتابة الدراسة، ومن ثقالة دم المدرِّسين.

ومثلما كنت أفرح بخروج الطلبة في مظاهرات، كنت اضيق وأتضايق من إعلان حظر التجول؛ كونه يحرمني من الذهاب إلى السينما، فضلا عن انني في ظل حظر التجول كنت أبقى محبوسا داخل الفُرْن، وعاجزا عن الحركة.

وذات ليلة من ليالي الحظر اللعينة، قلت أخرج وأذهب إلى دكان الحضرمي أشتري لي تُونة وبَصَل، لكن عُمّال الفُرْن صاحوا، وراحوا يخوِّفوني من الخروج،  ويقولون لي:
"حظر تجول -يا عبد الكريم- ما فيش خرجة".

لكنِّي رحت أتباهى، وأقول لهم إنني وأنا  في فُرْن الحاج عبد الله بكريتر، كنت  أخرج وقت حظر التجول، ولم يكن هناك من يخوِّفني، أو يمنعني من الخروج.

قلت لهم ذلك، وأنا أسترجع تلك الليالي التي كنت أكسر فيها الحظر، وأخرج لأوصل الرُّوتي إلى بيت الجميلة "كافيتا"، في شارع الاتحاد.

لكن العُمَّال، وقد رأوا مدى إصراري على الخروج، ذهبوا يخبرون 'المَسْتَري' المعتكف قرب زجاجته، وجاء عبده المَسْتَري وقال لي، وهو ثَمِل:
"يا عبد الكريم، الجنود متمركزين في سقف عمارة قصر المنصورة، ولو أنت خرجت با يشوفوك وبا يقنصوك".

قلت له: "الدنيا ليل كيف با يشوفونا؟!".

قال، وقد استفزَّه جهلي:
"با يشوفوك بالنواظير.. بنادق الإنجليز فيها نواظير، وأي واحد يخرج وقت حظر التجول يبصروه بالناظور ويقنصوه".

لكنِّي لم أصدق بأن هناك نواظير تبصر في الظلام، وقلت له:
"النواظير تبصر بالنهار مش بالليل، والدنيا غدرة".

وكان أخي سيف في الليالي العادية، وفي ليالي حظر التجول وقبل أن يدخل بيته، ينقل السلطة إلى عبده المَسْتَري، ويقول له:
"المسؤولية الآن مسؤوليتك -يا عبده- وأنت المسؤول".

وكان يعطيه كامل الصلاحيات، وأما في ليالي حظر التجول فكان يحذِّره من السماح لأي عامل في الفُرْن من الخروج.

وبعد أن يئس المَسْتَري من إقناعي بعدم الخروج، قال للعمّال:
"اشهدوا لي على عبد الكريم.. أنا كلمته ونصحته، وعملت اللِّي عليّ، وقلت له حظر تجول، ومش لازم يخرج، وأخوه سيف حذَّرنا، وقال لي:
لا تخلي أحدا يخرج وقت حظر التجول، وهو مُصِر. ذلحين لو خرج وحدث له مكروه تكونوا شهود معي عند أخوه سيف؟".

قال لهم ذلك وعاد إلى الاعتكاف قرب زجاجته، وراح يواصل الشُّرب.

وكان عبده المَسْتَري رجلا شرِّيباً؛ يشرب بمعدل زجاجة في اليوم، لكني لم أره قط سكرانا. ثم وقد عاد إلى زجاجته، راح العمُّال ينصحوني للمرة الأخيرة، لكني كنت قد عقدت العزْمَ على الذِّهاب. ولم يكن الجوع هو سبب إصراري على الخروج والذهاب إلى دكان الحضرمي، وإنما لأنني أيامها كنت في سن المراهقة، وكنت تحت تاثير الكتاب الذي قرأته عن "سيرة جيفارا". كنت قد تقمَّصت روحه المتمرِّدة، فضلا عن أنني كنت أتقمَّص أرواح أبطال الأفلام، وأتماهى معهم، وأشعر بأنني لا اقل بطولة عنهم.

عندما رحت أقرع باب دكان الحضرمي، تناهى إلى مسامعي صوته من الداخل:
"من يدق الباب؟".

قلت له: "أنا عبد الكريم".
 
لكنه لم يكن يعرف من هو عبد الكريم هذا الذي تجرأ وكسر الحظر، وقال مستوضحا: "من عبد الكريم!!".

قلت له: "عبد الكريم أبو الرُّوتي".

وكانت أول مرة أعرِّف فيها بنفسي بتلك الطريقة. وصادف أن حدث ذلك في الأسبوع نفسه الذي قال لي فيه إن عليّ أن أفخر بمهنتي بدلا من أخجل منها وأظل أتخانق مع الناس بسببها.

وبعد أن فتح لي الباب، استغرب مجيئي في وقت حظر التجول، وقال لي:
"أيش أنت مجنون؟ كيف تخرج وقت حظر التجول؟!".

قلت له: "وايش فيها؟!".

قال وقد استفزه كلامي: "كيف أيش فيها؟!! فيها وفيها.. الإنجليز متمركزين في سقف عمارة قصر المنصورة، ولو شافوك با يطخوك".

قلت : "ذانا خرجت، ووصلت لا عندك، وما شافوناش".

قال: "إن شاء الله خير". وراح يدعو الله أن يعمي أبصارهم، ويعمي بنادقهم.

وبعد أن أعطاني التُّونة والبَصَل، قال لي وهو يودِّعني:
"إمش من الطرف، من جهة البيوت، لا تمش من وسط الساحة".

وكان أمام دكان الحضرمي ساحة فاضية، والبيوت في أطرافها من جهة الشرق والغرب، وكنت عند مجيئي إلى دكانه قد مشيت لصق البيوت حتى لا يبصرني الجنود.

وأما بعد أن راح يحذِّرني من السير وسط الساحة المكشوفة، فقد ولَّد تحذيره عندي شيئا من التحدِّي، وقلت لنفسي:
"يعني أيش با يوقع لو مشيت من وسط الساحة؟!".

وفيما كنت أجتاز الساحة، وأسير بخطواتِ مَن هو واثق بعدم وجود خطرٍ يتهدده، تفاجأتُ بالرَّصاص ينهمر كأنه المطر، وعندئذٍ شعرتُ بالخطر، وركضتُ بأقصى سرعتي تحت مطر الرَّصاص. .

وعند وصولي باب الفُرْن، رحتُ أدق الباب بقوة، وأصرخ بفزع، وبكل طبقات صوتي، مناديا العمّال أن يفتحوا لي الباب.

ولا أدري ما هو الذي جعل العمال يبطئون في فتح الباب، ويتأخرون!!

وظننت أنهم زعلوا منِّي، ويريدون معاقبتي؛ لأننّي تحدّيتهم، ولم أكترث بكلامهم، ولا بنصائحهم، ولم أحترم سلطة كبيرهم "عبده المَسْتَري"، وبدا لي الزَّمن الفاصل بين طرقي للباب، وبين فتحهم لا نهائي.

وكان من حسن حظي أن البيوت المواجهة للفُرْن حالت بين الجنود  المتمركزين في سقف العمارة وبين رؤيتي.. لكن الرصاص كان مازال ينهمر بغزارة، وأنا أواصل طرق الباب بكل ما لديّ من قوة.

ثم وقد تأخروا في فتح باب الفُرْن، تملَّكني شعور بأنني لن أنجو ثم تعاظم هذا الشعور حتى صار يقينا. وحين مرت رصاصة من جنب أذني تذكرت أمي، وتذكرت قولها لي ليلة سفري إنها خائفة عليَّ، وتخشى أن يحدث لي مكروه، ولحظتها أنهار ما تبقى لي من أمل بالبقاء على قيد الحياة، وأجهشت بالبكاء.

في صباح اليوم التالي، حين  أبصر العمال واجهة الفُرْن وهي مخرَّمة بالرصاص، أدركوا خطورة ما حدث، وراحوا يعتذرون لي، ويقولون إنهم كانوا في الداخل، ولم يسمعوا نداءاتي وصراخي، ولا سمعوني، وأنا أطرق الباب.

قلت لهم وأنا زعلان: "طيب وصوت الرصاص؟!".

قالوا: "الرصاص سمعناه، لكن ما خطر في بالنا أنهم يطلقوا علوك".

وكان أن راحوا يلقون باللوم عليّ، ويقولون:
"نحنا نصحناك، وعبده المَسْتري قال لك لا تخرج، وأنت ما رضيت تسمع الكلام".

ثم راحوا يضحكون عليَّ، ويسخرون من تصرفي، وقال عبده المَسْتري ساخرا:
"الناس في عدن يقاتلوا ويستشهدوا من أجل يخرِّجوا الإنجليز من عدن،
وأنت -يا عبد الكريم- يا بطل كنت با تكون شهيد التّونة، وشهيد البَصَل".

مقالات

واحسرتاه على اليمن!

بالأمس، تسمَّر اليمنيون أمام الشاشات يحدوهم أمل كبير بأن يكون لليمن حضور في زيارة ترامب للسعودية وقطر والإمارات، والقمة الخليجية، لكن وبكل أسف ظهرت خيبة اليمنيين جميعاً، وأسفرت عن كتابات لبعض الأقلام المميزة، التي صبَّت جام غضبها على الشرعية الفاسدة التي أوصلت نفسها بفسادها إلى هذا الواقع المزري والبائس، حيث لا وجود لوجودهم، وأوصلوا اليمن ليكون نَسْياً منسيّاً. لم يتحدث أحد عن ميليشيا الانقلاب، لأن أمرهم مفروغ منه تماماً، وهو أن وجودهم وبقاءهم مرهون بفساد الشرعية وغياب الرؤية عند دول الإقليم، وأطماع وأحقاد الإمارات التي لا تريد أن ترى يمناً موحداً، وألاعيب الغرب الرأسمالي الوقح.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.