مقالات

أحداث أغسطس 68.. من هنا بدأ إفراغ النظام الجمهوري!!

26/08/2022, 13:42:46

قبل أربعة وخمسين سنة تماماً، وتحديداً يومي 23 و24 أغسطس 1968م، شهدت مدينة صنعاء معركة حسَّاسة للغاية، بين من يفترض أن يكونوا من المحسوبين على الصف الجمهوري الذي خرج منتصراً من معركة الدفاع عن صنعاء.

 أخذت هذه  المعركة طابعاً مناطقياً مقيتاً، إن لم تكن قد وصلت إلى النقطة المفخخة طائفياً، التي استخدمت كواحدة من أدوات الصراع وقتها، ولم تزل تتغذّى حتى اليوم من "تضخيمها" الباكر في الوعي الشعبي.

قبل ذلك بقليل - حين لم يكن قد مضى على فك حصار صنعاء غير أربعين يوماً - بدأت أزمة الصف الجمهوري بالاحتقان من جديد، بعد الاحتقان الأول الذي انفجر في نوفمبر 1967م وأدى إلى إزاحة الرئيس السلال والمحسوبين عليه من الاتجاه الموالي للمصريين.. أنتج هذا الانقلاب واقعاً سياسياً جديداً، لم يحسم هو الآخر تناقضات وانقسامات الصف الجمهوري من ساعته، لأن الانشغال كان محصوراً في التفكير بمعركة الدفاع عن مدينة صنعاء، التي أحاطتها القوات الملكية من كل جانب، فور اكتمال انسحاب القوات المصرية المرتبك والسريع (1).


البطولات التي سطرتها القوى (اليمنية) الجديدة دفاعاً عن المدينة خلال سبعين يوماً بين ديسمبر 67 وفبراير 68م، بددت كل رهانات السعودية وأربكت حساباتها في إسقاط النظام الجمهوري، ومن بوابته الرمزية العاصمة صنعاء، وكان هذا النصر المُنتزع في الوقت الصعب مبرراً كافياً لتقدم هذه القوى الشابة - بحواضنها العسكرية والشعبية والسياسية-  نفسها كشريك فاعل في إدارة الدولة من زاوية أنها ضحَّت بالكثير من منتسبيها من أجل الحفاظ على النظام الجمهوري، في وقت هرب أكثر رؤوس السلطة والقادة العسكريين من ميدان المعركة، ورأت في عودة الهاربين إلى مواقعهم القيادية ذاتها بعد فك الحصار هو نوع من التآمر عليها، وتمكين القوى الرجعية الموالية للسعودية من إنفاذ مخطط إفراغ النظام الجمهوري من مضامينه التقدمية، بعد أن فشلت في إلغائه ابتداء من مؤتمر الطائف أغسطس 1965م، وصولاً إلى  انقلاب الخامس من نوفمبر، الذى رأى فيه مناصروه تصحيحاً جوهرياً في إطار جمهورية ثانية تقوم على التشارك، وليس على الاستحواذ، ورأت فيه القوى الجديدة ارتداداً رجعياً مكَّن القوى المحافظة بلبوسها الجمهورية من الإمساك بالسلطة، وإن القوى السياسية التي ساندتها في إتمام الانقلاب وتحديداً حزب البعث العربي الاشتراكي، أرادت هي الأخرى وبانتهازية فارطة تصفية حسابات معقّدة مع القوى السياسية القومية الأخرى واليسارية، على خلفية عدائها المستحكم مع عبد الناصر والقوى التي تناصره، وراهن البعثيون على  قدرتهم الإمساك بالسلطة بمساندة القوى القبلية والمشيخية التي تحالف معها وأغدق عليها كثيراً المركز في بغداد، على حساب بنيته وقاعدته المدنية الكبيرة.


في منتصف مارس 1968م، رست في ميناء الحديدة سفينة سوفييتية محمّلة بأسلحة وذخائر متنوعة، التي تأخّر وصولها أشهرا طويلة  لأسباب أجملتها قوى "نوفمبرية" في أن السوفييت قبلوا طلباً مصرياً بإرجاء إرسال أسلحة وقطاع غيار للجيش اليمني، بعد خروج الجيش المصري، حتى تمتثل الحكومة اليمنية وتقبل بشروط اللجنة الثلاثية التي شكّلها مؤتمر الخرطوم بناء على تفاهمات عبد الناصر والملك فيصل لحل مشكلة اليمن، وانحياز اللجنة لرؤية الجانب السعودي الساعي لإسقاط النظام الجمهوري، وإعادة بيت حميد الدين إلى الحكم مع غيرها من القوى القريبة منها، دون أن يكون للحكومة المصرية موقف صريح منها، رأت قوى المقاومة الشعبية والفصائل العسكرية القريبة منها أحقيتها باستلام السلاح المقدَّم من الدولة الصديقة، وإن التشكيلات العسكرية (الصاعقة والمضلات) هي خلاصة الجيش اليمني الذي لم يزل يتمثل روح ثورة سبتمبر، وعداها قوى وتشكيلات عسكرية تتبع مراكز النفوذ القبلي التي طالما وقدمت نفسها وريثاً للإمامة وسلطتها، من موقع التأثير والاستقواء المذهبي على وجه الخصوص؛ وإن المقاومة اُشعرت فعلاً من قِبل الجانب السوفييتي أنها ستستلم الشحنة دون غيرها.. هنا ثارت ثائرة القوى القبلية والقيادات العسكرية العليا المرتبطة بها، فحشد محافظ الحديدة وقتها الشيخ القبلي "سنان أو لحوم" الموالين له واستدعى قوات من خارج المحافظة لمنع أي عملية تسليم للسلاح والمعدات العسكرية لقيادة المقاومة والفصيلين القريبين منها (المظلات والصاعقة)، وتطور الأمر إلى ضرب مقر الاتحاد العمالي ومقر المقاومة بالدبابات، أعقبها وصول رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني ورئيس الحكومة والقائد الأعلى حسن العمري ورئيس هيئة الأركان عبد الرقيب عبد الوهاب، والشيخ أحمد عبد ربه العواضي إلى مدينة الحديدة لحل الإشكال القائم.


تأخّر عبد الرقيب والشيخ العواضي في مدينة الحديدة ولم يرافقا رئيس المجلس والقائد الأعلى في عودتهما إلى صنعاء، ففسر القاضي الإرياني الأمر بما يشبه تحالف خفي بين الرجلين - الذين سيُصفَّان لاحقاً في ظروف يعرفها الجميع - "أسرعتْ مع الفريق العمري إلى الحديدة، كما أسرع رئيس الأركان ومعه عدد من وحدته، والشيخ أحمد العواضي ومعه مجموعة من أصحابه، وقد أسرعوا مؤيدين للمقاومة بدون أوامر، وبانضمام العواضي إلى قائد الصاعقة  برزت المشكلة في حجم كبير  تفوح منه رائحة الطائفية.. اتفقنا أن نعود جميعاً إلى صنعاء، وفعلا كان عودنا ما خلا رئيس الأركان قائد الصاعقة عبد الرقيب عبد الوهاب والشيخ أحمد العواضي فقد تأخرا، فأبرقنا لرئيس الأركان والعواضي: انتظرنا وصولكم  فلم تصلوا، واستغربنا تأخركم  ووجباتكم تنتظركم في صنعاء مع العدو الحقيقي لا في الحديدة"(2)  

في المشادات الكلامية بين ضباط محسوبين على المقاومة وفصيليهما العسكريين وبين القائد العمري، أطلق العمري ألفاظا تمييزية، أخذت بعداً عنصرياً ضد قائد عسكري معروف أججت من الموقف المحتدم، الذي سيتفجر في وقت لاحق.
خلال ستة أشهر تالية لتلك الواقعة، بدأ الطرفان في التحشيد على قاعدة فرز مناطقي واضح، حيث حسب فريق المقاومة والفصائل الموالية له على جنوب اليمن، وبقية القوى والتشكيلات خصوصاً الجيش الشعبي حسبت على شماله، أما الذي أوصلها تالياً إلى نقطة الانفجار هو قيام الفريق العمري بإصدار قرارات عسكرية بدون التنسيق مع رئيس هيئة الأركان أقصى بموجبها العديد من القادة المناوئين له وللقاضي الإرياني، والذين اعتبرهم الأخير مجموعة من الحزبيين الفوضويين.. لم يمتثل الكثيرين لهذه القرارات الإقصائية، ومنهم قائد المدفعية علي مثنى جبران. ويقول القاضي الارياني عن ذلك:


"في يوم 18 أغسطس اتخذ الفريق العمري قراراً تنظيمياً، تمت بموجبه بعض التنقلات والتعينات الجديدة في قيادة وحدات الجيش، ولم تحرز هذه التغيرات رضا كل وحدات الجيش وكان من بين هذه القرارات تعيين النقيب محمد محرم قائداً للمدفعية بدلاً عن علي مثنى جبران الذي أقام الدنيا وأقعدها ورفض تنفيذ الأوامر العسكرية العليا، وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد كان جبران مرتبطاً عقائدياً بالرئيس السابق للأركان عبد الرقيب عبد الوهاب، بالإضافة إلى أنه من المنطقة الوسطى، وليس من قبيلة حاشد ولا من قبيلة بكيل ، وأيد تمرده وحدتا المظلات والصاعقة وأحد قادة المشاة، بينما وافقت بقية قطاعات الجيش على التغييرات.. وقد بلغ التمرد بهذا الضابط المتهور أن بعث برسالة إلى القائد العام يهدد فيها بقصف صنعاء، وطلبه القائد العام وبعث به إلى سجن القلعة، وثأرت ثائرة مؤيديه وأصبح الجانبان يستعدان للمواجهة" (3)    

كان للتحشيد القبلي الكبير واستخدام عناصر أمنية وعسكرية من المحسوبين على جبهة التحرير المتواجدين في صنعاء - والمناوئين للقوميين الذين حسبت عليهم فصائل المقاومة - أثره البالغ في حسم المعركة سريعاً، وتالياً التنكيل بكل المحسوبين على الطرف المنكسر إما بالإبعاد الوظيفي أو السجن والهروب، ومنها أبعاد رئيس هيئة الأركان ومجموعة من القادة إلى الجزائر، عاد معظمهم إلى صنعاء بطرق مختلفة عداه هو فقد عاد متسللاً إلى وحدته السابقة، لتتم تصفيته في يناير 1969م و بالطريقة التي يعرفها الجميع.


مكنت هذه العملية الطرف المنتصر بتوجهاته المحافظة والقريب من السعودية من التفرد بالسلطة، ليفسح الطريق واسعاً أمام مصالحة سياسية بين السلطة المتجانسة والملكيين وحلفائهم برعاية سعودية في مارس 1970م الإمساك بسلطة مترهلة فاسدة تأسست على تقاسم المصالح والنفوذ بين الضباط المواليين والمشايخ والتيار الديني والملكيين، وهي القاعدة التي صمدت طويلاً، في إدارة بلد أرادت له الجارة أن يكون مكباً لنفاياتها، ويديره مجموعة من الموظفين البائسين بمراتب عليا في التوصيف الوظيفي يبدأ بالرئيس وينتهي بالغفير الطائع.
____________________
(1) وجدت القيادة المصرية  في مخرجات مؤتمر الخرطوم واتفاق الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز مبرراً كافياً للانسحاب من اليمن بعد خمس سنوات من إسناد الجمهورية الوليدة، التي تكالب عليها الأعداء في الداخل والخارج، ودفع المصريون أكلافاً باهظة ثمناً لهذا الإسناد الأخلاقي الكبير.
(2) مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني الجزء الثالث 1967- 1972م ص 98- 99
(3) نفسه ص 116

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.