مقالات

"الحديدة مدينة الجحيم..!!"

08/06/2024, 19:40:17

لقد أنفق كاتب هذه السطور من عمره أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في مدينة الحديدة، وعرف الحديدة بكل تجلياتها وأيامها وفصولها وتقلبات الطقس فيها، وما يصنعه بالإنسان في هذه المدينة وتهامة عموماً، لقد زار المدينة التي سكنتْ قلوب كل اليمنيين بلا استثناء، يومي الخميس والجمعة، بعد مغادرته لها عام 2018م إلى القرية، وهي على وشك السقوط بيد تحالف الشرعية الرّخوة، وكان الميناء على مرمى حجر، وأمام العمالقة تهاوت كل الطرق إلى الميناء، لولا اتفاق استوكهولم الذي كان ومازال أكبر خديعة حتى اليوم، ومازال الناس يدفعون ثمناً باهظاً، والحقيقة لا ندري ماذا كان ستكون عليه حال تلك المدينة اليوم لو أنها بيد الشرعية الرّخوة، لكن كل شيء لا يبشر بخير أبداً، على ما رأينا من حياة تشبه الجحيم بالضبط. 

والله لقد بكى على الحال التي وصلت إليها المدينة فيما يخص الكهرباء؛ الحجر والشجر، مما يعانيه الناس من حر شديد ليلاً ونهاراً، وكل لحظة، الكهرباء اللعينة متوفرة بثمن باهظ جداً لا يستطيع 90% من السكان تحمّل تكلفتها على الإطلاق، ولذلك يدفعون مبالغ خيالية مقابل أوقات محددة تجعل حياتهم أسوأ مما هي عليه.

فواتير تنطح فواتير، وبأرقام ومبالغ على حساب أقوات الناس وغذائهم اليومي، بمعنى أن فواتير الكهرباء تستهلك ليس فقط ثمن الغذاء والدواء وغيره، بل لقد استهلكت مدخرات الناس جميعاً، فقراءهم وأغنياءهم على حد سواء، وسكان الحديدة الأفقر في اليمن، لقد تكالب عليهم تجار الحروب وتجار الكهرباء، وتحول المواطن التهامي المسكين إلى فيد وغنيمة يتم ذبحه بلا رحمة من الوريد إلى الوريد. 

المدينة، صباح أمس واليوم وكل يوم، فارغة تماماً، والناس في الحديدة يمشون كالسكارى وما هم بسكارى من شدة الحر الذي لم يسبق أن عصف بهذه المدينة والناس وتهامة عامة كما يحدث خلال العامين الأخيرين.

حاول القليلون بيع آخر ما يملكون لشراء أجهزة تكييف على الطاقة الشمسية، رغم أسعارها الخيالية والخرافية الذي يصل إلى مليون ريال للطن، لكن الأغلب الأعم من الناس لن يستطيعوا، وليس أمامهم -على ما رأيت- إلا  الموت المحتّم. 

الناس هناك غير قادرين حتى على مصافحة من يزور مدينتهم؛ من شدة الإعياء والإنهاك الجسدي والروحي، هناك جريمة حرب تحدث على مرأى ومسمع من العالم لا تسقط بالتقادم، وقد تم تحويل الكهرباء إلى مصاص دماء إلى جيوب الناس بكافة مستوياتهم وفئاتهم، وقد أمست تجارة رابحة تدر المليارات لجيوب فئة قليلة من الناس الذي حوّلوا الحديدة إلى إقطاعية خاصة بهم. 

ما تبدو عليه المدينة ليس الحقيقة التي هي عليها، الحزن والألم والوجوه الكئيبة التي تعبِّر عن بشاعة الجريمة، التي يتم ارتكابها بحق سكان تهامة عموماً، لو كان هناك ضمير لدى أحد تجار الحروب وصاحب قرار، وفي داخله إنسان حقيقي، وهو يمر في شوارع الحديدة، ويرى الناس بمنظور الراعي والمسؤول عن رعيّته لقرر بعودة تعرفة الكهرباء إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ومجانية للمعدمين والمعلمين والموظفين الذين من غير مرتبات من سكان المدينة، منذ عشر سنوات. 

الأسر في البيوت تذوب مثل الشموع من حر الصيف. المشاهد، الذي لديه أسرة في تهامة عامة والحديدة خاصة، هل يتوجب عليه الرحيل من المدينة، وتركها للغربان التي تنعق ليلاً ونهاراً؛ الغربان التي دمّرت الحياة والبيئة بكل ما في كلمة تدمير من معنى... 

لم نعد نرى على شاطئ الحديدة النوارس والبط والأوز وطيور البحر، فلا عصافير ولا توازن بيئي.

الغربان سحقت المدينة جبايات وواجبات وزكاة وضرائب.. 

الغربان زرعت ألغام الموت وعممت قنابل مؤقتة في جيوب الناس. لم يعد للناس سلطة على جيوبهم هناك.. 

ولا تستغربوا إذا بال الناس على أنفسهم عند كل استلام فاتورة كهرباء... 

قبل شهر اجتمع بعض الهوامير هناك مع المحافظ لعمل حل بخصوص تعرفة الكهرباء في صيف الحديدة، طبعاً قد مضت عدة شهور من دخول الحر، واتفقوا على تدارس الموضوع؛ وحتى اليوم لم يتحدث أحد. 

عندما يتبقى من الصيف شهر وقليل، سيقومون بتخفيض التعرفة بما يكشف عن حقيقتهم المزيّفة، ولن يستفيد أحد من هذا التخفيض المتذاكي على الناس ومأساتهم.. 

المثير في الموضوع أن كثيراً من أبناء تهامة متواطئون تماماً في زيادة معاناة ناسهم وأهلهم.. وليس لهم موقف حقيقي سوى التبعية الرخيصة. 

الناس هناك ليست أيامهم كأيام الناس، وليست لياليهم كليالي الناس، وليست أعيادهم كأعياد الناس، وليست أفراحهم كأفراح الناس، الناس تحوّلت في الحديدة إلى إسفنجات مبللة وجيوب فارغة وبطون خاوية، وحياة في جحيم تجار الكهرباء.

مقالات

ذكرى إعدام الماكر

أعدم علي عبدالله صالح في صنعاء وطويت حقبة رجل اختصمنا معه صحيح؛ لكن لم نكن نتمنى له تلك الخاتمة وعلى أيدي توافه البشرية..

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.