مقالات
الشاعر 'محمد سعيد جرادة' شاعر الوفاء
نشأ الشاعر 'محمد سعيد جرادة' في النِّصف الأول من القرن العشرين في بيئة غير آمنة وغير مستقرة؛ حيث كانت عدن تحت وطأة الاستعمار البريطاني. وكان الوضع الأمني مترديًا؛ حيث كانت المدينة معرضة للضربات الجوية أو الغزوات البحرية.
بالإضافة إلى كل ذلك، كان الاستعمار البريطاني في عدن، إذا حدث طارئ، يفرض التجنيد الإجباري، كما حدث في مصر والعراق.
فخلال الحرب العالمية الثانية، جنّد الاستعمار البريطاني في عدن الكثير من الشباب. وكنتيجة للحرب، أغلقت مجلة 'الحكمة' وصحيفة 'الإيمان' في الشمال سابقاً؛ لانعدام الورق والحِبر.
وفي مطلع الأربعينات، صدرت صحيفة 'فتاة الجزيرة'، التي كان شاعرنا (محمد سعيد جرادة) من الكتاب المتميِّزين فيها؛ لأنه كان سيِّد الكلمة منذ أولى خطواته "على رمال التاريخ العربي".
كان شاعرنا شغوفاً بتحيَّة كل صحيفة تبزغ من تحت دواليب المطابع، حيث كتب موجهًا حديثه إلى رئيس تحرير إحدى الصحف:
"مزّقْ بنور يراعك الظلماء وارفع لفنّك في السماء لواء واطلع على الدّنيا بقلب مجاهد يغني ليحيي العزّة الشماء".
ومضى يستنطق مآثر الحضارة اليمنية، لكي يجليها للشعر المعاصر؛ فيكتب اليمني عن 'سبأ' و'معين' كما كتب العرب كمحمد فريد أبو حديد، الذي أصدر رواية عن دولة معين بعنوان 'الوعاء المرمري'.
وفوق هذا، كانت الخطوات الشعرية تتآلف بآثار الأجداد والآباء ك'البابليين والآشوريين والفراعنة'، إلا أن حضارة اليمن لم تنجب غير 'سد مأرب'، ولم تثمر أهراما ك'الأهرامات' المصرية، ولا حدائق معلقة كحضارة بابل، ولا قامت فيها أعمدة بعلبك كالحضارة 'الفينيقية'، ومع هذا يشير شاعرنا:
"نحن الذين جرتْ محاسنُ ذكرهم بفم الزمان قصيدةٌ عصماءُ".
وكان يجد في احتراف الأدب بؤسين: بُؤسه البيتي، وبُؤسه الجيبي؛ لأن الرِّفاق يلتقون ندامى فيصرفون على اللهو، وقلَّما يجد ما يُشارك به؛ كما أشار إلى هذا في قصيدة طويلة، ولهذا احترف ما يُدر عليه دخلا، وهو إيجار السياكل (الدراجات)، التي كان يُؤجرها للصبيان والشباب، ولكل صاحب مهمة عاجلة، لذا أمكن جيبه أن يشم عبير النّقود، وأمكن عشاياه أن تتضوَّعْ، كما في قصيدته 'كأس وحبيب':
"هاتها بشرى تمشت في النفوس
ونجوماً تتجلَّى في الكؤوس
خفَّ صحبي نحوها وانتظموا حولها عقداً على جيد عروس".
وكان هذا من تأثير ثقافته الشعرية، التي تغنَّتْ تحت النشوة.
وأهم قصائده الاجتماعية هي 'نماذج من الناس'، وكان يحذو حذو القدماء فعلاً وشعراً.
فكما كان شعراء بغداد والبصرة يرتادون الأقاليم يمتدحون الولاة ويستملئون الجيوب، قصد صاحبنا شيوخ المحميّات غير مفرِّق بين الخصيب "أمير مصر" وبين خالد بن عبد الله القسري "والي الموصل"، فقد كان أولئك السلاطين لا يملكون إلا تلك الرّوبيات التي تدفعها خزانة المندوب السامي في كل شهر، وكان الذي يقتدر على أن يمتص الرّعايا هو سلطان لحج؛ لأنه يملك جيشاً مدرّباً، كان يقوده أخوه أحمد عبدالله القمندان، الذي يدل لقبه 'القمندان' على رتبته العسكرية العليا.
وإلى جانب هذا، كان صاحبنا صافي القلب، خالص الود، فما مات من رفاق شعره أحد دون أن يرثيه: من محمد محمود الزبيري إلى لطفي جعفر أمان، الذي لاقى ربه عام 1972م.
وحين رحل صاحبنا إلى الكوكب البعيد لم يرنُّ في رثاه بيت باكٍ أو متباكٍ.
وكانت رحلاته الشهية إلى جبل شمسان، حيث كان يدَّعي أنه يضرب الشيخ البدوي بباكورته حتى ينقصم ظهره، فتسمَّى 'بطل شمسان'، وربَّما وقع هذا مرّة أو ثنتين، وربَّما كانت هذه تجربة من جملة تجاربه الخيالية البريئة.
قال للبردوني بعد زواجه: "من رأيي -يا فلان- أن تسافر معي إلى عدن، فليس لك في صنعاء إلا زوجتك، أما في عدن فسوف أتاجر لك معي في السوق السوداء".
فقال له: "ولكنِّي لا أملك الخميرة الأولى التي تكون عجينة السوق السوداء".
قال: "لا، أنت مشهور، وقد كتبت عن قصائدك عشرة أحاديث في الإذاعة، كنت أتقاضى على الحديث ثلاثين شلناً، وهذا مبلغ خيالي في مكافأة الإذاعة عندنا."
ومن حسن الحظ أن البردوني عجز عن إجابته، فقد عرف أنه لا يملك ما يُؤهله للسوق السوداء.
وفي الستينات، تعيَّن في مدرسة ابتدائية، وكان معلماً جاداً، يحسُّ بعظمة المسؤولية، وبالأخص في تعليم الصغار.
وعند عقد أول جلسة لاتحاد أُدباء اليمن، سأل البردوني عن محمد سعيد جرادة مستنكراً غيابه، وإذا به في خانة الرَّجعية، فقاوم البردوني هذه التّهمة، بل لم يعتبرها تُهمة، ورأى الحق له في الإنضواء إلى اتحاد الأدباء.
وتساءل البردوني: "إذا لم يلُحْ وجه الشاعر محمد سعيد جرادة في الاتحاد، فمن الثاني الذي يغطِّي مكانه، أو من الثالث؟".
كان لطفي جعفر أمان يحب الخلوة في بيته، ولا يرغب في مزاولة أي عمل. ومع ذلك، كان يريد نقوداً تُحلِّي الخلوة، إلى جانب الحبيبة التي تزوّجها (فوزية)، أما صاحبنا فكان يعتاد البُؤس، ويهنأ بالفرحة في أي وقت تتضوَّع الجلسات.