مقالات

الشهرة والعقاقير وأزمة المعنى

30/10/2022, 07:25:43

مشكلة شيرين هي مشكلة الإنسان الحديث في كل مكان: الشعور بالخواء، فقدان أي إحساس أصيل بالقيمة. من هنا يبدأ الهروب من مواجهة قلقه الداخلي والتورّط بأي شكل من الإدمان.

 يتوّهم الإنسان أن الإدمان يمكنه أن يحرره من كوابيس الحياة؛ فيما هو يضاعف مأساته. أي نوع من الإدمان هو عبودية؛ تخفض من سيطرة الإنسان على ذاته وصولًا للانهيار. 

غالبية العاملين في مجال الفن، من يحوزون الشهرة والمال، يحققون ذواتهم، وحين يقفون على حافة الحياة؛ يشعرون بتلاشي قيمة كل ما لديهم من مكاسب. لم تعد الشهرة قادرة على تحفيز شعورهم بذواتهم، ولا المال يروي عطشهم الغامض لشيء يجهلونه. حينها يذهبون إلى التفتيش عن طرق جديدة تنشِّط إحساسهم بالحياة، أو حتى تفصلهم عنها، وتجعلهم يتخففون من كوابيسهم الداخلية، ويكون الإدمان هو الحل. 

فنانة يتابعها الملايين على صفحتها، أغانيها تصل إلى عشرات الملايين في اليوتيوب، لديها المال والنفوذ والعلاقات وقادرة على تحقيق كل ما تريده. لكن كل هذه الممتلكات باتت عديمة الجدوى، تتلاشى قيمة المادة، ويتكشف عجزها عن حماية وجود المرء من الانهيار. بكل ما تملكه الفنانة لم تتمكن من الوصول إلى معنى وجودي راسخ ثم انتهى بها الحال تائهة، لا تدري أين تقف. تلوذ بالعقاقير؛ كي تعالج أزمة معنى، لا يمكن أن توفّرها هذه الحيل البائسة. 

ليست شيرين وحدها من انهارت، هناك من هو أقوى منها، عقول كبيرة، زاخرة بالفكرة والمعنى، فلاسفة ومفكرون بل وشخوص صدروا أنفسهم كخبراء لترميم جروح النفوس. أذكر لكم هنا نموذجين: أولها: تذكروا كيف انتهى الحال بالعقل الجبار "نيتشه"، هذا الرجل الذي حاول تشييد فلسفة كاملة للوجود، كان عقلًا مثيرا للإبهار، دقيقاً، ويتمتع بقدرة تأملية مربكة، حفّار ماهر في طبيعة الوعي، ولمّاح في التقاط أدق انفعالات النفس، رجل بهذه العقلية، ينتهي به الحال أن يخرج من غرفته ويحتضن حماراً في الشارع، ثم يصرخ: أيها الحمار إنني أفهمك وينتحب ثم يموت.

ولكم مثال آخر: جوردان بيترسون، هذا الشخص المعاصر، ذاع صيته ملء الأرجاء؛ كمعالج بالمعنى، كان يلوذ به الملايين، ثم انتهى به الحال مكتئباً. ظهر قبل شهور في لقاء تلفزيوني منهارا تماما، كان يبكي ويقول للناس إنه لم يعد متأكدا من شيء، وأنه ليس من العدل أن يتألم. ويضيف: "عندما يسألني الناس إن كنت أؤمن بالله؟ أقول لهم: لا، لكن تخيفني احتمالية أن يكون موجودا". 

ما الذي أود قوله؟ لكن من هذا..؟ وددت القول: هناك سرّ خاص هو من صميم النفس البشرية، الحاجة إلى قيمة أعلى يستعصم بها الإنسان، درع يقيه من هاوية الحياة. علاقة بموجود متعالٍ يهب الذات إحساسًا بالقوة "يمكن للإنسان الاستغناء عن كل شيء باستثناء حاجته للمطلق"، وحين يفتقد المرء العلاقة بهذه العوالم يظل يشعر بعطش متواصل لشيء مجهول لا يعلم كيف يُطفئه. وينشأ لديه استعداد لعمل أي شيء؛ كي يسد هذه الفجوة في داخله. لكنه يفعل ذلك بطريقة خطأ، يهرب نحو هاوية أشد؛ فتكبر الفجوة بداخله، وينتهي به الحال نحو الشعور بالتيه والضياع. شيرين نموذجاً، وكثيرون غيرها في كل مكان، يفتشون عن طريقة للامتلاء؛ فيزدادون شعوراً بالخواء لما لا نهاية. وتكون المصحة هي النهاية. 

لا يمكن أن تخطئ العين أثر غياب المقدّس في حياتنا. لقد ارتكبت الحضارة خطأ فادحاً، حين دفعت العقل البشري نحو سلوك متبجح، أوهمته أنه قادر على السيطرة على حياته، وفهم الوجود بكل تعقيداته، والعيش دون حاجة إلى أي عون من خارجه، دون استناد لقوة مجهولة تحميه. أعني حتى لو كانت عقليّا غير قابلة للإثبات التجريبي وفقاً لنهج الفلسفة، لكنها قوة حاضرة ومؤثرة في النفس البشرية، لا يمكن أن تكون الفلسفة بكل أحابيلها ومحاولتها المنطقية نفي الله والمقدّس، ومع ذلك هي غير قادرة أن توفّر بدائل روحية تمنح المرء سياجاً يحميه من التشظّي وغاية يستند إليها حين ترهقه الحياة.  

الخلاصة: كتبت هذا بعد أن هدأت موجة التضامنات والتفسيرات الهامشية لجوهر مشكلة شيرين. إنهم يناقشون الحكاية من واقعتها الأخيرة، ويتجاهلون البُعد الجذري للمسألة. يقولون زوجها كان يُعنِّفها؛ لكن هذا لا يشرح المشكلة. فكم من بشر يتعرّضون للقسوة، سيقولون طبعها حساس، وكم من بشر حسّاسين واجهوا عناء بلا نهاية. لكنهم لا يتساءلون: لماذا هي مدمنة..؟ ما الذي تبحث عنه امرأة مثلها، حياتها مؤّمنة من كل المقلقات، ويمكنها العيش كأميرة بأرقى حالة ممكنة؛ لكنها ظلت تعيش غير راضية؟ لماذا هي غير راضية؟ ثم لماذا تقبلت العيش في علاقة مختلة، وظلت معلقة وتعيش اضطراباً مفتوحاً؟ ما القلق الجذري الذي دفعها لكل هذا..؟ أميل إلى الجواب المبدئي والبسيط: لقد كانت ضحيّة لخوائها من أي معنى، كانت حالتها إفرازا من إفرازات الحداثة، وانهيار فكرة "المقدّس"، وظلت هائمة حتى سقوطها. لا الفن أروى ظمأ روحها، ولا كل البدائل البشرية الهشة - الروحانيات البديلة، كما تُدّعي، فشلت في صدها عن الإدمان- وحده الله كان بمقدوره أن ينقذها. الله أو الإيمان، إيمان صلب، مصدر منفصل عن المادة. أقول هذه الكلمة وأتذكر عبارة مشابهة قالها فيلسوف علم النفس الشهير والشجاع، كارل يونغ: من يجرؤ في عالم اليوم أن يقول: "إن الله هو من ألهمه فكرة أو أن حديثه نابع من ثقته بالله" لقد صار هذا مصدرا للهمز واللهمز، ومؤشرا لعقل يؤمن بالخرافات. لكأنهم قبضوا الحقيقة الكاملة بشأن هذا الوجود، وألغو كل منطق مواز. أزاحوا الله من واقع الحياة، استندوا لجموحهم العقلي، لتدبيرهم المحدود، لمالهم أو شهرتهم أو عبقريتهم الخاصة؛ لكنهم لم يمنعوا الكثير من الانهيار.

مقالات

هكذا تكلم المناضل صاحب "اللستة"!

في اليمن، يمكنك أن تتعامل مع الحرية بالمسطرة التي تحددها تحيزاتك. ما تمنحه لنفسك يمكنك أن تمنعه عن غيرك بكل بساطة، بل الأدهى إضفاء طابع أخلاقي للمنع!

مقالات

شاعر سبتمبر وأكتوبر الكبير عبدالله عبد الوهاب نعمان (1)

كما أن السياسة ليست شارعاً واحداً، فإن الثورة ليست خطاً واحداً تعزف عليه الرصاص نشيد النصر والفرح، وإنما الثورة متعددة الخطوط عديدة المواقع، كل خط يؤازر موازيه، وكل موقع يساند مقابله؛ لأن الحياة كل والثورة هي كل عطايا الحياة، وأجمل عطايا الأحياء، فلكي تتآزر خطوطها وتتواصل مسيرتها تتعدد المواقع الثورية، ثورة الزنود إلى جانب جمرات القلوب، وثورات المحاريث والمعاول إلى جانب ثورات المعازف والأغاني والأشعار والأفكار.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.