مقالات
القراءة الثانية
لا يكتسب القارئ ثراءً معرفياً كلما زاد عدد الكتب التي يقرأها. أن تقرأ كتاباً جيداً عشر مرات، أفضل لتطورك الشخصي من أن تقرأ عشرة كتب لا تلامس شياً داخلك. عدد العشرة هنا مبالغة لتقريب المعنى.
أنت لا تمشي في النهر مرتين، ولا تمضي في الكتاب نفسه مرتين، أنت تتغير، والكتاب كذلك لا يبقى بالصورة نفسها التي كونتها عنه من قبل.
«القراءة الثانية» تكتسب معنى مختلفا يمكّن القارئ من قياس تطور شخصيته وتجاربه بين «القراءتين».
في كل مرة نعيد قراءة كتاب ما، نكتشف منظورات جديدة لنا حول الكتاب، ويمنحنا تجربة مختلفة في كل مرة. إنها تجربة تتطور معها قدرة القارئ على إدراك ما غاب عنه، أو على النقيض؛ تمكنه من اكتشاف ضحالة ما كان يراه في فترة ما مهماً.
يتطلب ذلك مسافة زمنية بين القراءة الأولى والثانية، عشر سنوات وأكثر، وهي مدة كافية تكون شخصية المرء خلالها قد عاشت تجارب جديدة، ومرت بأحاسيس ومواقف متباينة لها انعكاساتها داخل الذات، وفي علاقتها بالعالم من حولها.
لم يعد القارئ متلقيا سلبيا حسب مفهوم قديم يضع المؤلف في مرتبة موجهٍ يُلقي بالمعنى للآخرين جاهزاً للتداول، كما حدده هو ورسم خطوط طوله وعرضه.
القارئ طرف أساسي في إنتاج المعنى، تجاربه تخلق معنى خاصا للكتاب الذي يقرأه. الكتاب يمنحك مفاتيح لقراءة ذاتك، والحياة من حولك. إذا أخذت مسافة مما تقرأ، متصوراً أن فيه معنى محددا وجاهزا ينتظرك لتكتشفه، فسوف لن تجد شيئاً، ولن تكتشف سوى الفراغ.
لن تجد داخل الكتب سوى ما هو موجود بداخلك كمادة خام. لن تجد في الكتاب سوى ما عشته مسبقا من تجارب وأحاسيس. إنك تجمع أفكارك إلى الكتاب وتقرأها من خلاله.
لا توجد قراءتان متشابهتان لكتاب واحد، فالقراءة عملية تفاعلية تتأثر بعقليات البشر المتنوعة، نفسياتهم، ونظرتهم إلى الحياة، إلى هذا الاختلاف بين قارئين، يوجد اختلاف آخر داخل القارئ الواحد بين زمنين مختلفين في مراحل حياته. بالأحرى، انعكاس الزمن داخله، وما تركته التجارب والتطور النفسي والشخصي على أحاسيسه، وكيفية مقاربته للحياة والأشياء من حوله.
عندما تقرأ كتاباً، يشبه الأمر إعادة كتابته لنفسك. أنت تجلب إلى الرواية أي شيء تقرأه، كل خبراتك في الحياة، تعكس أحاسيسك وتجاربك في صفحات الكتاب الذي تقرأه بطريقتك الخاصة.
كان في بيتنا، الذي نشأت فيه بالقرية، كُتب كثيرة ومجلات ثقافية، لكن أول كتاب أشتريته كان رواية «الكونت دي مونت كريستو». كنت حينها في الصف السادس الابتدائي بمدرسة ناصر في مدينة تعز، وأقيم عند قريب لي، وأعمل مع أولاده في «معرض الأطلال» لبيع الأقمشة بالميزان. كانت سنوات كفاح مؤثرة في شخصيتي. حاولت إعادة قراءة هذه الرواية للمرة الثانية، لكنني صُدِمت. لم أجد فيها شيئاً من التشويق والإثارة، ولا أي شيء آخر يعوّض الأهمية التي كانت لها في طفولتي.
قصائد مشايخ الصوفية، أمثال الشيخ أحمد ابن علوان، عبدالرحيم البرعي، عبدالهادي السودي، وقصائد أخرى للمتنبي وأحمد شوقي، من مفتتح ما قرأته قبل المدرسة. كانت مكتوبة بخط يد والدي -رحمه الله- ويختار منها أبياتاً لتعليم طلبة القرآن الكريم الخط والكتابة، إذ يكررون كتابتها في ألواح مُخضرة بنبات «العِنشط». أعدتُ قراءة هذه القصائد بعد أكثر من عشرين عاماً على القراءة الأولى، وجدتها أكثر إلهاماً. إنضاف الوعي بأبعادها الصوفية والجمالية إلى وهج اكتشافها في مفتتح الطفولة.
«وداعا أيها السلاح» و«لمن تقرع الأجراس»، روايتا أرنست همنجواي، كانتا مما قرأته في مرحلة الإعدادية. كانت هاتان الروايتان تتسمان بالتشويق والإثارة آنذاك. عندما حاولت قراءتهما من جديد وجدتهما جثتين هامدتين، لا شيء فيهما مما توهج في داخلي آنذاك. ربما أجد في «لمن تقرع الأجراس» بعض ما يجذبني الآن بالنظر لما قرأته عن الحرب الأسبانية، وما كتب عنها شعراً ونثراً، لكن مقياسها الأهم عندي الآن هو خلوها من إثارة مشوقة وجدتها في القراءة الأولي.
«الشيخ والبحر»، للروائي نفسه، كنت مندهشا مما أراه مبالغة في أهميتها. لم يكن ابن الثانية عشرة، الطفل الذي كُنتهُ حينها، يدرك "رمزية" كفاح الصياد العجوز وإصراره على مواصلة التحدي والعودة بالحوت الضخم الذي اصطاده وصارع أسماك القرش من أجل العودة به، حتى وقد أصبح هيكلاً عظمياً.
لا أحب قراءة المسرحيات مطلقا، أرى أنها تُشاهد ولا تُقرأ. كتاب بريتولد بريخت «حياة غاليليه» كان واحداً من ثلاثة استثناءات قرأتها في هذا النوع من الأدب.
في قراءتي الثانية له وجدته قيماً في الموضوع الذي طرقه، ولكنه لم يكن مُلهماً لي، لا في القراءة الأولى ولا الثانية.
أفلت الروائي اليمني محمد عبدالولي من كتالوج الحزبية ومسطرتها، التي أودت بكثيرين، وحولت أدبهم إلى نوع من «المباشرة النضالية». أخلص للأدب، رغم أنه كان سياسيا ومستغرقا في الحياة الحزبية، وهذا الإخلاص للأدب حمى موهبته، وهو واضح تماما في أسلوبه وموضوعاته. قرأته في الإعدادية والثانوية، وعندما أعدت قراءة بعض رواياته قبل سنوات، وجدت أنها لم تُبلَ، وإن كانت القراءة الأولى قد استنزفت كل ما فيها من طبقات معنى.
تكتشف في القراءة الثانية عمق التقاطات محمد عبدالولي لموضوعاته، بمنظور أوسع كقارئ عاش صنعاء في الواقع، وجاء من الأرض في قرى اليمن خلف الجبال.
تدهشك شخصية «عمنا صالح»، ويزداد تقديرك لروائي التقط تجارب اغتراب اليمني داخل بلده، وفي بلدان المهجر خارجها، وحنينه للأرض والحرية، الانعتاق، وعبّر عنها كما لم يفعل غيره من الروائيين في جيله، ومن أتوا بعده.
الكتب المُلهمة، كتب الفلسفة والأدب، وكل كتاب يحتوي على معنى يكثف تجربة عميقة في الحياة، وفي أحاسيس مؤلفه؛ يستحق أن تعيد قراءته مرة أخرى.
الكتب المُلهمة تقترب من مرتبة الفن، والكاتب الفذ هو فنان بطبعه، وبأناقة أسلوبه، وثراء تجربته التي يعبّر عنها في كتابته.
الكتب التي أثرت عليَّ، وأعادت بنائي نفسياً ووجدانياً وعقلياً، واكتشفت فيها منظورات أعمق في قراءاتي الثانية لها كثيرة، لكن أهمها هي مؤلفات فرناندو بيسوا، فريدريك نيتشة، هنري ميللر، هنري برغسون، كارل يونغ، وطائفة واسعة من الكتب حول الفيزياء والعلوم الحديثة وعلاقتها بالفلسفات والعلوم القديمة.
إعادة قراءة كتاب في هذا المدار تبرز معنى داخلياً أكثر عمقاً. تعود إلى هكذا نوعية من الكتب مرة ثانية وثالثة وعاشرة؛ كونها مفاتيح أساسية تمكنك من التعمق في قراءة الذات ومجاهيلها، والحياة وألغازها، وأسئلتها الأساسية.
في القراءة الثانية للكتب الأدبية، تتعلم أنك عندما تبدأ في قراءة كتاب عليك ألا تمضي في صفحاته من البداية بتركيز شديد كمن يبحث عن جواهر نادرة. اقرأه كأنك تمشي في طريقك المعتادة يومياً إلى البيت أو مكان روتيني، وستجد ما تبحث عنه، إن كان فعلاً يحتوي على ما يستحق البحث عنه.
لا أستطيع قراءة كتاب قام شخص ما بتسليط الضوء على فقراته أو وضع خطوطا تحتها. إنه يشتت انتباهي، كلانا نحصل على شيء مختلف من الكتاب نفسه. كذلك، لا أستطيع إعادة قراءة كتاب للمرة الثانية، إذا فقدت النسخة الأولى التي مررت خلالها وتركت أثراً فيها: خطوط تحت فقرات معينة، ملاحظات جانبية، هوامش حول أفكار محددة تحتاج استقصاءً في مستوى أوسع خارج الكتاب.
الترجمة تشبه القراءة. يحدث أن مترجماً ما يتكامل مع المؤلف كأنه جزء من عالمه، ومترجم آخر تحس أنه يتحول إلى حاجز يحول بينك وبين الدخول إلي الكتاب.
أول مرة أحاول قراءة «هكذا تكلم زاردشت» تحول الأمر إلى صدمة. كان ذلك في الثانوية، وبترجمة فارس فليكس، كان الأمر بحاجة إلى زمن ما حتى أعود لقراءته. أن أدخل عالم نيتشه أولاً من بوابة أخرى «إنساني مفرط في إنسانيته»، وأن أكمل قراءة كل كتبه واحداً بعد الآخر، وحتى رسائله، وأهم الكتب التي كتبت عنه، وانتظار مترجم فذ مثل التونسي علي مصباح، ومن ثم الدخول إلى زرادشت نيتشه، الكتاب الذي كتبه بأسلوب مفارق لكل مؤلفاته الأخرى، ووصفه، وكأنه يكمل تحديه للأناجيل الأربعة، بأنه «أُملي عليه»، في حالات انخطاف ذهني عاشها في مدينة جنوى بإيطاليا. ذلك ما ألهم ألماني آخر هو بيتر سلوتردايك أن يكتب كتابا عن هذا الكتاب، سماه «الإنجيل الخامس لنيتشه».
أكثر مترجم نفرني من كتاب، هو كمال أبو ديب، وما فعله في ترجمته لكتاب إدوارد سعيد «الاستشراق». يحضر هذا المترجم بعقليّته وفذلكاته، وتزيده، محاولا أن يقدم نفسه هو لا الكتاب الذي ترجمه. نجح بالفعل في مهمته، وانتصب كحائط صد أعاقني من تعدي عتبة الكتاب، ومهما حاولت حتى مع ترجمات أخرى جديدة، أحس أن الأمر قد حُسِم، وأن المترجم قد دمَّر الكتاب عندي، إلى الأبد.
الأكثر وضوحاً في كل قراءة ثانية، أنك تتأكد من أن الكُتب، التي قرأتها بدافع الانتماء الحزبي والتشيّع لتيار سياسي، قد تجعدت، ولن تجد في قراءتك الثانية لها سوى ذكريات بائسة من تعصبك في قراءتك الأولى لها.
إلى حد ما بقي كازنتزاكي، لكن «مذكراته» فقدت جزءا كبيراً من قيمتها في القراءة الثانية. تكتشف، على أهمية الكتاب "النسبية"، أنه ليس فقط لم يعد فيه ما يُستكشف، بل إن جزءاً من أهميته القديمة كان قائماً على «القبول والإقرار المسبق» به ككاتب فذ ومتميز.
تؤثر فينا الكتب، شخصيات الروايات، في كل مرة نعيد قراءتها. إنها تشكل شخصياتنا، وتتفاعل مع منظوراتنا للحياة. المؤلف لا ينطوي على معنى جاهز
وناجز يقدمه لنا في كُتبه. هو يتغير أيضاً ويتأثر بمؤلفاته، لا قارئها فحسب.
يرى خوسيه ساراماجو أن أكثر الرجال حكمة ممن عرفهم في حياته، لم يكونوا يتقنون القراءة ولا الكتابة، هما جده وجدته، وكانا أميين. لكن تأثيرهما الحقيقي عليه حدث بعد تحويلهما من شخصيات من لحم ودم، وإنضمامهما إلى شخصيات روائية أخرى رسمها بقلمه، بينهم والده.
في كلمته بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للعام 98، كتب الروائي البرتغالي يقول إن الشخصيات، التي رسمها في رواياته، محولاً إياها بقلم الروائي من شخصيات عادية من لحم ودم إلى شخوص، ساهمت في بناء حياته من جديد. عندما كتب عن أبيه وجده، كان، ودون انتباه منه، يعبر الطريق نفسه الذي رسمه لشخصيّاته التي قام بخلقها، التي صنعت منه الشخص الذي هو عليه، بحسب تعبيره حينها. أفصح سارامجو يقول إنه كان خالق تلك الشخصيات في رواياته، وابنا لها في الوقت نفسه.
ما الذي يفعله فينا الأدب؟ ما تأثير الشخصيات التي نتعرف عليها داخل الروايات على شخصياتنا؟
فرناندوا بيسوا كتب يقول إنه تعرف على شخصيات داخل الروايات، أكثر أصالة من الشخصيات الحقيقية التي عرفته بها الحياة. ويذهب بعيدا، إذ يقول إن أصالة هذا الشخصيات الروائية من النادر أن نجد شبيهاً لها بين الشخصيات الحقيقية.
أما خوسيه ساراماجو فذهب بعيدا، بوضع شخصياته الروائية، التي رسمها في رواياته، في مرتبة المعلمين الحقيقيين:
«الآن لدي القدرة على تمييز المعلمين الحقيقيين لي في هذه الحياة، الذين عملوا على تلقيني أهم وأقسى دروس العيش، إنهم -بلا شك- شخوص الروايات والمسرح الذين يمرون الآن كشريط أمام عيني.
«لم يكن بإمكاني أن أكون ما أنا عليه اليوم بدون هؤلاء النساء والرجال المصنوعين من الحبر والورق، الذين خلقتهم، وكنت أعتقد خاطئاً بأنني من كنت أقودهم وفق رؤيتي ورغبتي ككاتب، تماماً كما تحرك الدمى المتحركة التي لا يتعدى تأثيرها الوزن الذي تحمله الأيدي، وضغط الخيوط خلال التحريك».
في نهاية المطاف نصل إلى أن القارئ ليس هامشاً لا أهمية له، بل جزء من عملية إنتاج المعنى، فاعل حقيقي في كل قراءة يقدم عليها.
كل إنسان، يقول هنري ميللر؛ يصبح صادقاً بشدة مع نفسه، قادرا على نطق الحقائق العميقة.
«كلنا نستمد من المصدر نفسه، لا غموض في أصل الأشياء. كلنا جزء من الخلق، كل الملوك، كل الشعراء، كل الموسيقيين؛ ما علينا إلا أن ننفتح، لنكتشف ما هو موجود بالفعل».