مقالات

بئر "ريان" وعالم ما بعد الحقيقة!

07/02/2022, 08:27:13
المصدر : غرفة الأخبار

لا ضمانة للإنسانية غير إيقاظ التضامن والإحساس بالآخرين. بئر "ريان" استجلبت قلوباً بلا عدد إلى بؤرتها خلال الأيام الخمسة الفائتة، حيث طفل وحيد ومعزول عن العالم يواجه مصيره في الظلام.

 طفل وحيد في ظلمة المصير المجهول، وشبكة هائلة من البشر تتحلق حول "البئر"، وعبر شبكة اختزلت العالم في شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي. 

كنت أنظر بشغاف القلب متحمساً للوقوف على مصير طفل في "بئر ريان"، ودمعت عيناي لموته، وفي رأسي يخطر السؤال بعد الآخر: لماذا يغيب هذا التعاطف الإنساني عندما يتعلق الحال بمصير شعب كامل يئن في بئر كبيرة تدعى اليمن، وتقع على خارطة العالم نفسه؟

لماذا هذا التعاطف حول مصير طفل تعرّض لحادث سقوط غير مقصود في ظلمة مصير مجهول، بينما لا يجد آلاف الأطفال تعاطفاً إنسانياً مماثلاً وهم يقتلون بالبراميل المتفجرة في المدن السورية، أو تمزّق أجسادهم قذائف الدبابات وصواريخ الطائرات في اليمن؟

لا مقايضة لهذا بذاك، الطفل هو العالم. وأن يقف العالم ترقُباً لمصير طفل سقط في بئر، فذلك درس يذكّرنا بالتعاطف الغائب، والتواطؤ السائد في عالم يعايش جرائم ضد الإنسانية، ومآسٍ تعم بلداناً يسكنها عشرات الملايين من البشر. 

فهْم هذا التباين في ردود الفعل يقودنا إلى النظر في الدوافع والرغبات والمصالح التي تقف وراء صناعة المآسي الإنسانية، والدوافع والمؤثرات التي تصنع ردود فعل الجماهير وتتحكم بها، وبتعبير أدق "تصنعها". 

صناعة الأكاذيب وتمويه الحقائق سمة أساسية للعالم اليوم. تطورت وسائل الاتصال وتبادل المعلومات، وبالتوازي معها تطورت برامج التحكم بالرأي العام وترويج الأكاذيب. 

لهذه الأسباب تختلف ردود الفعل أمام حدث مأساوي طبيعي عن آخر تصنعه يد البشر. 

 

التعاطف إزاء إعصار أو زلزال يختلف عن مآسٍ يصنعها استبداد سياسي، مليشيات مسلحة، حروب، دول، انتهاكات لحقوق الإنسان. 

 

المأساة الإنسانية الناتجة عن كارثة طبيعية أو حدث عابر لا يقف وراءه أحد، مثل سقوط الطفل المغربي ريان في البئر، لا تحتشد الدعاية الإعلامية لتمويه حقيقته، ولا يوجد فاعل محدد من مصلحته أن يخلط أوراقه ويلقي بظلال من الشك على وقوعه، أو يعبئ الجمهور لتقبّله بصناعة صورة زائفة تفرغ ردود الفعل في اتجاه آخر قد يكون مسانداً ومؤيداً لجرائم واسعة النطاق، من قِبل جمهور أشبه بالقطيع تتحكم بردود فعله وسائل إعلام موجّهة وحملات إلكترونية منظّمة ومدروسة. 

في عالم الفكر والسياسة يتم تداول مصطلح جديد منذ سنوات بعنوان "عالم ما بعد الحقيقة". 

يُعرِّف معجم أكسفورد مصطلح «ما بعد الحقيقة» بأنه: الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيراً أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنةً بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق. والعواطف والقناعات الفردية هنا تقع تحت مؤثرات التضليل والتزييف وصناعة الأكاذيب، وماكينات التعبئة للجماعات الأيديولوجية والمذهبية والدينية. 

قُتِل في سوريا أكثر من سبعمئة ألف سوري، وشُرِد ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري في جهات الأرض الأربع، في حرب النطام وحلفائه الإقليميين والدوليين على شعبه الذي تجرأ وطالب بالتغيير، وخرج إلى الساحات ثائراً. 

غير أن ماكنة التضليل موّهت الحقائق، ونشرت الأكاذيب، وخاضت معركة لا تقل عن الحرب التي عملت على تمويهها. 

هل تتذكرون قصص الخيال التي نسجوها حول ما يحدث في الساحات في 2011، هناك من صدق هذه الأكاذيب، مثلما هنالك من يصدق اليوم سلسلة أكاذيب لا نهاية لها تخوض حرباً إعلامية موازية لتبرير جرائم الحرب التي لم تتوقف خلال أعوام الحرب السبعة. 

هذا التضليل يخلق اضطرابات نفسية عند الجمهور، ويتلاعب بالدوافع والرغبات، وينشر أكاذيب تتكامل مع حالة إرهاب تقف وراءها مصالح ودوافع أطراف الحرب، وهي حرب مزدوجة (داخلية وخارجية) ساحتها اليمن وحياة سكانها، الذين تطحنهم الرصاص والمدافع والطائرات والجوع والفقر والانهيارات التي يعيشون في ظلها، انهيار الدولة والنظام التعليمي والنظام الصحي، وانهيار نظام الخدمات والأزمات في المعيشة والبترول والغاز والمشتقات النفطية إلى آخر سلسلة الأزمات التي حوّلت بلدهم إلى بئر مظلمة ليس لها قرار. 

بحسب علماء الاجتماع، فإن الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام والمنصات الإلكترونية ومصممي الدعاية ورجال العلاقات العامة يتحولون في هذا الإطار، عند استحداثهم معنًى زائفاً أو طرحهم أفكاراً وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي أو مصالحه، وفرضها عبر الإقناع، يتحولون إلى سائسي عقول، لجماهير أغلبيتها ينطبق عليها وصف "القطيع"، كونها لم تعد قادرة على التحكم بردود فعلها التي تصنعها وسائل الدعاية المنظمة، والضخ عبر كوابل الإعلام التلفزيوني والصحفي، وعبر المنصات الإلكترونية. 

مع هذا التحكّم في الضخ الإعلامي، يمكننا القول إن الرأي العام في داخل البلدان التي تشهد حروبا، وكذلك الرأي العام الدولي في الدول الكبرى المؤثرة، لم يعد قادراً على التحكّم في ردود فعله، وضبطها على إيقاع المعايير الإنسانية، والتعاطف مع الضحايا، والتضامن مع من تُسحق حياتهم في انتهاكات حقوق الإنسان، والحروب والجرائم ضد الإنسانية. 

كان الجعفري -ممثل النظام السوري- يجادل في إحدى جلسات مجلس الأمن مطالباً بإثباتات، حول القصف الشامل لمدينة أدلب والضحايا الذين فاقوا المئات، حينها رد عليه أحد الأعضاء قائلاً: هناك واقع لا يقبل التضليل الذي تمارسونه في المنصات الإلكترونية، هنالك أربعون ألف نازح خلال هذا الأسبوع هربوا من الجحيم الذي فتحته فوقهم الطائرات. لم نصل بعد إلى عالم ما بعد الحقيقة، ولا زال بإمكاننا أن ندرك الحقائق من الأكاذيب. 

معرفة الحقائق من الأكاذيب، ربما تكون هذه هي ورطة عصر المعلومات. 

يتاح للضحايا فرصة نشر المعلومات حول ما يحدث لهم، لكن الأنظمة والجماعات والدول الكبرى، وما تمثله هذه التكوينات من مصالح وما يتحكّم بها من دوافع، تتحرك أيضاً في الفضاء نفسه، مستخدمةً أساليب الخداع والتضليل، وتنشر الأكاذيب، وتدير منظومات تستخدم أحدث الأساليب في مساعيها للتحكم بالرأي العام وردود أفعاله. 

القول بأن الجماهير في عصر المعلومات تتحكّم بردود فعلها، فيه مبالغة لم تعد قابلة للتصديق.

 لو كان الرأي العام العالمي يمتلك ردود فعله لما بقي العالم صامتاً أمام حرب داخلية وخارجية بل وعالمية تسحق اليمن، سكانها ووجودها، وتضعها في بئر مظلمة مند سبع سنوات، ولا تزال. 

ولو كانت آراء وردود فعل العالم تتحدد وفق الدوافع الإنسانية لسكانه، لكان نظام الأسد قد سقط بالتزامن مع إسقاطه البراميل المتفجّرة فوق شعبه داخل المدن السورية. 

مات الطفل المغربي "ريان"، غير أنه نكز قلب العالم كله بمأساته.

 ذكّرت روحه البريئة سكان كوكب الأرض أنهم يحتاجون إلى الإحساس بضحايا القمع والحروب والصراعات، يحتاجون إلى تذكّر إنسانيتهم المطمورة تحت ماكنات الدعاية والتضليل ونشر الأكاذيب.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.