مقالات
جيش الوطن لا جيش اليدومي
الذين يصفون الجيش الوطني بأنه جيش الإصلاح، هم لا يستهدفون الإصلاح بهذا الوصف؛ حين ينسبون ملكية الجيش له؛ لكنهم يُصادرون مؤسسة مملوكة للشعب وينسبونها لفصيل لا يملكها، وليس من حقه امتلاكها.
الجيش ليس مملوكا للإصلاح، ومن غير المقبول أن يكون كذلك، ولا يجب أن نهديه لهم، ولا نسمح بنسبته إليهم، بل ومن العبث أن نردد هذه النغمة تحت أي مبرر.
هذا المنطق يحاول تعميم صورة ذهنية خاطئة عن الجيش تُسهم في تشويشهه وبشكل يُسقط عنه هويته الوطنية العامة وعقيدته العسكرية المحايدة، أو ما يتوجّب أن يكون عليه، وما هو مفترض أن نعززها فيه وندفع باتجاه رسوخها أكثر.
الجيوش مملوكة للشعوب، سواء كانت من اليمين أو اليسار أو خليط من هذا وذاك، هي قوة يتوجّب عزلها عن التصنيفات الانتمائية باستثناء انتمائها الجمعي للشعب، وتذويبها داخل هوية جديدة، والاشتغال على تعزيز هذه الهوية وفصلها عن سياقات التكون الأولى.
بالطبع، من يروّجون لهذه النغمة يفعلون ذلك بخفة قاتلة، وبهدف تحنيط الجيش وحشره بلباس معيّن ثم تبرير مواقفهم المتخاذلة ضدّه؛ لكنه تبرير كارثي يخصخص مؤسسة عامة بما يجعل تضحيات الناس عرضة للبخس، ويهين نضالاتهم.
أما مستوى حضور هذا الفصيل أو ذاك في الجيش وتكوينه فهو انعكاس لحجم القوى المجتمعية ومستويات حضورها المباشر داخل الشعب وبشكل حر وطبيعي، ولهذا فلا يعني الأمر أن الجيش مملوك لأحد، ولا يُسوّغ ذلك نسبته لأي فصيل.
صحيح أن المؤسسة العسكرية الوطنية ما زالت في حالة من السيولة، وتكاد تتمفصل بداخلها هويات متناثرة، لم تذب ملامحها بشكل كامل، وهذا طبيعي بالنظر إلى ظروف نشأتها، ويبدو مفهوما كونها في مراحلها الجنينية الأولى -مع كونها قد قطعت شوطا في فصل القوة عن مصادر تشكلها-؛ لكن ما ليس مفهوما هو إصرار البعض على ترسيخها بهذه الصورة الحزبية القاتلة، وتنميطها في أطوارها الأولى والمشوّشة؛ بهدف تثبيت صورة ذهنية سلبية عنها.
يحاولون تكريس هذه الصورة، لأهداف تتعلق بغايات سياسية رخيصة، ولغاية تحييد كتلة اجتماعية من حقها في الحضور داخل مؤسسات الدولة كجزء طبيعي من قوى المجتمع الفاعل.
أما مسألة طبيعة تكوين الجيش الوطني، فكل الجيوش في العالم تتشكّل بهذه الطريقة، وتحديدا في المراحل الحاسمة من تاريخ الأمم، حين يتعرّض كل شيء للانهيار.
في اللحظات الفاصلة تلك، حين تهجم قوة غاشمة على وجود البشر، ويبدو أنها على مشارف التحكم الكلي بواقعهم واختطاف مصيرهم للأبد، في لحظة كهذه تتعطل كل مجالات الحياة، وتسقط الحدود بين نشاطات البشر وأعمالهم ووظائفهم.
حينها لا قيمة لمهندس ولا طبيب، لا يتبقى هناك من تعريف واقعي لأي هوية عملية لأي إنسان، لا فنان ولا مدرس، ويسري الأمر على كل المهن..(عن الجيش الوطني اليمني يقولون ساخرين: هذا جيش المدرسين).
حسنًا، نعود لفكرتنا. عندما تنهار الدولة، يكون الواجب التاريخي هو استعادة مفهوم الحياة، الحياة في صيغتها الأولى، الحق في الوجود الحر، تحرير البشر من التهديد الوجودي متمثلًا في هذه الجماعة أو تلك.
في حالتنا اليمنية، حدث مثل هذا، وكان أنّ قطاعا من المواطنين العاملين في مجال التدريس، وفي مجالات أخرى، كانوا ذوي حساسية وطنية وتاريخية عالية، واحتشدوا للدفاع عن وجودنا المهدور.
لم يكن هذا السلوك النبيل غريبا أو نادر الحدوث، ففي تاريخ الأمم هناك فلاسفة ومفكرون وشعراء وروائيون وعلماء في كل مجالات الحياة، انتهجوا السلوك نفسه، ليس فقط مدرّسين، بل ونماذج لأعظم منتجي المعرفة، أولئك الذين يفصل بينهم وبين النشاط العسكري مسافة مهولة؛ لكنهم فهموا الدور بنباهة عالية، وقرروا تجميد كل نشاطاتهم، وحمل السلاح، شكّلوا حائط صد وأعادوا للحياة قيمتها أمام كل قوة تهدف إلى استباحة وجود الإنسان.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم يحدث أن تلقى محارب، كلمة واحدة تلمزه، بل على العكس، صار سلوكهم، مصدر مجد لهم وخلّدتهم الشعوب، كنماذج للبطولة النادرة.
سيقول قائل: "لكنهم لم يستمروا كجنود في جيوش بلدانهم". هذا كلام غير صحيح بالمطلق، بعضهم استمر في السجل العسكري، ومن قرر منهم العودة إلى نشاطه السابق، فعل ذلك بإرادته.
بل وأكثر من هذا حظوا بتكريم يتجاوز عوائدهم المالية المنتظمة.
من العار أن نلمز مواطنا ترك كل اهتماماته السابقة، المحببة لنفسه والمتناغمة مع عالمه، وقرر المغامرة بحياته؛ كي يدافع عن حق البشر بحياة حرة. رجل كهذا من الخسة والطبع اللئيم أن يتعرّض للتجريح تحت أي مبرر كان. سواء تعلق الأمر بإعادة ترتيب الجيش أو لسبب آخر أشد إثارة للعار، هو مستحقاتهم المالية.
أما تهمة الأهلية للعمل العسكري، فهذه تهمة لا تحتاج للدحض، فمن غامر بحياته في لحظات أشد خطورة، وتمكن من النجاح في مجابهة القوة الحوثية الهمجية، فهو لا يحتاج شهادة أخرى لإثبات جدارته.
ولا توجد حجة نظرية يمكنها أن تدافع عن كفاءته بمثل تلك الشهادة الواقعية الرفيعة.
لكن الحقيقة أن كل المبررات السابقة ليست مهمة، فالمغزى من هذا كله هو مصادرة حق كتلة اجتماعية معروفة من التواجد الطبيعي داخل بنية الجيش، وفي ذلك تبخيس غير مبرر لدورها النضالي وحقها الطبيعي في الحضور المتناغم داخل كل مؤسسات البلد، وبتماهٍ تام مع ما تفرضه اشتراطات هذه المؤسسة المحايدة.
أما محاولة نزع شرعية الجيش الوطني، فهي محاولة لا تهدف إلى بناء مؤسسة عسكرية نزيهة ومحايدة كما يروّجون، بل تكشف عن نوايا مستقبلية غير ديمقراطية، حيث يحاولون منذ الآن بناء جيش ذي توجّه معين، تحديدا يعادي التيارات الإسلامية، وبما يجعل أي عملية ديمقراطية مستقبلية مهددة بالتقويض، وذلك حالما تمكن حزب ذو خلفية إسلامية من الفوز.
وليس هناك من تفسير آخر لهذا السلوك، غير هذا.
فلو كان هدفهم بناء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية بالفعل، فالجيش الوطني هو كتلة عسكرية قادمة من وسط الشعب، أما لو كان لديهم مخاوف من الخلفية التي قدم منها جزء من الجيش الوطني، فليكن الهدف هو الاشتغال على العقيدة الوطنية للجيش، ودمج كل الفصائل الأخرى معها، تحت دائرة توجيه واحدة، وتنتهي كل المشكلة.
فما من جيش في العالم إلا وكانت بدايات تشكله بهذه الطريقة -كما أسلفنا- أما محاولة تحييد القوة التي شكّلت خط الدفاع الأول عن الشعب، فهي عملية انتقامية، وثأر من الشعب نفسه، وليس فيها أي مسعى وطني كما يدعون.
وهناك نقطة أهم، بخصوص مشروعية الجيش الوطني، في الحقيقة أن هذا الجيش هو سبب بقاء شرعية السلطة الحاكمة الآن، أي أن المجلس الرئاسي استمد شرعية بقائه من هذه القوة السيادية التي دافعت عن شرعيته النظرية، وبواسطتها واصلت السلطة الحضور.
فمن دفاع الجيش الوطني عن السيادة اكتسب العليمي حق إصدار القرارات ذات المشروعية، وبدون الجيش الوطني كانت سيادته ستتلاشى مع الرياح، وهجمات القوة الحوثية، وقد استباحت كل شيء.
ولا يعني ذلك أن الشرعية تبقى رهينة لتلك القوة؛ لكن أيضا من غير المنطقي أن تستخدم السلطة الشرعية صلاحيتها، على الضد من مصادر تشكلها الاجتماعي، بل إنها بهذه الحالة تكون سلطة معادية للمجتمع وقواه؛ فبدلا من استثمار هذه القوة لتعزيز سلطتها وتكوين سلطة متناغمة مع مكوّنات المجتمع تعمل على تدميرها وكأنها ليست قوة نابعة من قلب المجتمع الذي تحكمه.
أخيرا: هذا النوع من المواقف التي تصدر ضد الجيش الوطني هو سلوك مراهق وعبثي، ونوع من حركة التدمير الذاتي ينتهجه البعض، ليس ضد مؤسسة شعبية هي في النهاية مملوكة للناس، بل وضد المجتمع والقوة الحية فيه، وهذا في النهاية نزيف مرير لكتلة بشرية هي بمثابة ذخيرة مهمّة للقوة الكُلية للشعب، وعليه يُفترض أن تُنتزع من أي تأطيرات، وتُحرس صورتها العامة، ثم تسند كمؤسسة ولاؤها للشعب، وليست حفيدة لهذا الحزب أو ذاك.
الصراع في البلاد بلا بوصلة.. مماحكات تطال كل شيء، لا وجود لمحددات صراع تحترم البنى التأسيسية للدولة. مستوى من الشتات يكشف حالة التمزّق التأريخي الذي بلغته النخبة، وعجزها عن مغادرة مربّع الثأرات، والتفكير بعقلية النّقمة الدائمة ضد الآخر..