مقالات
دردشة مع حزب الإصلاح..
حزب الإصلاح، لا هو حزب تقليدي بالكامل، ولا حزب حداثي خالص، ما التقليد وما الحداثة..؟ هذان سؤالان كبيران، إجابتهما الدقيقة تستدعي بحثاً مطولاً، والجواب الموجز يقول: التقليد التمسك بالرؤية الحالية والموروثة، والحداثة: إخضاعها للمساءلة العقلية وإعادة تكييفها مع آخر ما جاد به العقل البشري في ما يخص شؤون الفكر والسياسة.
يمتاز الإصلاح بمرونة تكتيكية عالية؛ لكنه متصلب في جذوره ومنطلقاته الكبرى، ليس لديه مشكلة في التعاطي مع كل ما يُستجد على الساحة اليومية للعالم؛ لكن ذلك يظل تعاملا عمليا/ براجماتيا، أكثر منه توافقا نظريّا مع كل ما يُستجد.
إنه لا يتوقّف مع النشاطات المدنية والمواضيع مثار الجدل؛ كي يهضمها ويعيد مراجعة فكرته المركزية عنها، لتحقيق أكبر قدر مُمكن من الاتساق معها. فقط، هو يتجاوب معها تكتيكياً بشكل إيجابي وبما يجنّبه أي خسارة مُمكنة، ثم يمضي محتفظاً بثوابته النّظرية دون أي تحديث أو مساس بها.
هنا نصل لأول فكرة، يحتاج الإصلاح لاشتغال نظري مطوَّل حول قضايا مركزية كبيرة، كي يؤثثها فلسفياً، ويتمكّن من إزالة أي التباسات وشبهات يحاول خصومه استجرارها ضده. فالتعامل الظرفي والبراجماتي الجيّد مع القضايا الجدلية، لا يلغي الحاجة إلى التجديد المنهجي المؤطر لها. حيث الجذور تظل فاعلة وتُطل برأسها؛ كي تربك الموقف بشكل متكرر.
في السياق ذاته: هناك سؤال عريض، مركزي وواسع، يُثار أمام حزب الإصلاح بشكل متكرر، لكنّه لا يُقدم جواباً حاسماً ودقيقاً عنه. سؤال الديمقراطية، وبشكل أدق.. مصدر الشرعية. بالطبع لا يكاد يخلو خطاب أو بيان للحزب من تأكيده على النهج الدّيمقراطي؛ لكن هذا خطاب عمومي، لا يُطمئن معارضيهم، ولا يبدد المخاوف من جوهر الديمقراطية الإسلامية التي يُنادي بها الحزب.
خصوم الإصلاح يقولون: ديمقراطية الحزب منقوصة، كيف تؤمن أن الشعب مصدر السلطة، أي أنه مانح الشرعية، وأن السيادة سيادة الشعب، ثم حين تحكم: تنادي بسيادة الشريعة.. أي أنك تؤمن بالشعب كوسيلة والديمقراطية كعملية إجرائية، وحين تتمكّن من الوصول، تفرض على الشعب رؤيتك الفوقية للحكم، وتشريعاتك الخاصة.
حيث الشريعة هنا مفهوم فضفاض، يخضع لتأويلات بلا عدد، كما يثير مخاوف متصلة بالحريات الفردية والخاصة، لدى أنصار التيارات العلمانية.
الحاكمية: هذا هو أهم مبدأ جدلي يثير مخاوف المناهضين للرؤية الإصلاحية للحكم، حاكمية الشريعة؛ كمهيمن وربما نقيض للسيادة الشعبية المطلقة، وحاكمية الأغلبية كمهدد لحقوق الأقلية، وفي أقلّ تقدير هاضمة للحقوق الفردية. باختصار شديد: جعل الشريعة مقيّدة ومحددة للتشريع، هو أمر جالب للخوف لدى قطاع من المجتمع.
وبالطبع، هذا موضوع بحثي طويل، ثمة مراجعات معرفية كثيرة حوله في مراكز البحوث؛ لكن ما يعنينا هنا -كما أسلفت- هو أن الإصلاح كحزب وحتى اللحظة لم يحسم الجدل حول كثير من المواضيع الشائكة والمتعلقة بمنطلقاته النظرية الكبرى، لم يجرِ تحديثاً تفصيلياً فيما يخض طبيعة الحكم وما تثيره سلطتهم من مخاوف لدى الآخر، وفكرة السيادة، ومصدر التشريع، مدني خالص أو إلهي وغيرها.
التجاوب اللحظي العابر مع القضايا الجدلية، أمر سهل ولا يتطلب كثيرَ جهد، فالأمر مجرد تخلّص مؤقت من مواضيع ذات صلة بأفكار كبرى، لكن التحدّي هو التمكّن من تحقيق تناغم جذري مع قضايا الدولة والمجتمع، وهذا ما يتطلّب شجاعة سياسية وفكرية أكبر.
وإضافة لما سبق، هناك الموقف من المرأة، الموقف من الفن، جدلية الدِّيني والسياسي، مركزية التنظيم الشديدة، والجمود القيادي في الحزب، أخطاؤه السياسية، جميعها مواضيع لم تأخذ حقها من البحث والمراجعة، وهي ما تجعل الحزب عُرضة لارتباكات متكررة، طوال الخط.
أخيراً: هناك نقطة مهمّة، هو أن حزباً بحجم الإصلاح من المحتمل أن يتسيَّد الحضور بشكل رسمي في أي انتخابات قادِمة، بعد حدوث تسوية سياسية، وحتى ذلك الحين، وبالنظر لتواجده الكبير في الساحة، هو مطالب بتحقيق درجة تناغم كبيرة مع المجتمع وتخفيف مناطق التوتر بينه وبين مختلف شرائح المجتمع، لكون هذه الصراعات الصغيرة سوف تستمر في النمو، وتنعكس على أي مستقبل يكون فيه الإصلاح طرفا مركزيا في السلطة، وبما يعيق أي استقرار لمنظومة الحكم المختلّة من أساسها.
وهنا يكمن ذكاء الكتلة الحيوية الأكبر في المجتمع، أي في قدرتها على التداخل مع مجتمعها، وإنجاز درجة تشابك عالية تُؤسس لإجماع وطني جيّد، وليس غضّ الطرف عن كل هذه التوترات، والانتظار للحظة يصل فيها المجتمع المدني إلى انقسامات وتمترسات مضادّة للحزب، ثم يقعد للشكوى بأن تيارات صغيرة في المجتمع تتآمر ضدّه، وتناهض المشتركات الوطنية. إذ أن وظيفة الكتل النشطة في المجتمع هي صناعة وتعميق هذه المشتركات وتغذيتها، وليس فقط انتظار تحققها من العدَم وبدون فاعل يدفع نحوها.