مقالات

شتاء الحديدة البهيج!!

28/01/2024, 12:14:17

الجميل في مدينة الحديدة كثير وقليلٌ من رده تعليلُ، وفي كل الأيام، وخاصة يوم وليلة الخميس، سكان الحديدة خاصةً  وتهامة عامةً لا يتنازلون عن الطقوس المتوارثة، سواء كانت مناسبات دينية أو اجتماعية، ومن المناسبات الدينية ليلة المولد النبوي، وليلة البهجة، التي تصادف السابع والعشرين من رجب، وليلة النصف من شعبان، وكلها تصادف تقريباً أيام وليالي صيفية عامرة بالفل، وبياضه، وزهوره، ومشاقره من الريحان، أو ما يُسمى بالرند أو البياض، والوزاب، وكلها روائح تملاً الزمان والمكان والقلوب والعقول، أما المناسبات الاجتماعية، فهي ذات شجون وألوان وأمزجة.

والزائر لمدينة الحديدة، أياً كان، يجد في الحديدة ما يبحث عنه بالضبط، من سكينة اجتماعية، ودعة ووداعة، وطيبة قلوب السكان ذوي البشرة السمراء، ولهجة تهامية محببة الى النفوس والقلوب، وأماكن لقضاء أيام وليالٍ جميلة على شاطئ ممتد حتى الأفق البعيد، وأمسيات لا يُعكِّر صفوها شيء، ونسمات قادمة من البحر مليئة بالأوكسجين والهواء العليل الرطب، الذي يكون سكينة على روح السائح والزائر والمقيم، وكل محب للحياة، وكل جميل يرى الحياة جميلة.

تتوجَّه صباحاً إلى أحد أسواق الصيد والسمك، وأمامك هنا خيارات مفتوحة، أما التوجّه إلى سوق الصيد المركزي خلف مستشفى الثورة، الذي يقع على الشاطئ، أو سوق مدينة التعاون أو العمال، وهنا أمامك خيارات أخرى جيدة وجديدة، أمامك سمك بأنواعه وأسمائه، وبعضها من شهرة اسمها تكاد لا تُسمَّى، بالنسبة للبعض -وهم الأغلب- أمتع سمك هو "الديرك" بأحجامه سيّد الأسماك في الحديدة، وهو أجود أسماك البحر الأحمر، يتحول بالقلي إلى بسكويت سمك، ومع الرز البسمتي، أو "الصيادية"، يُجنن بمذاقه كيفما كان، ويفضله البعض طازجاً على نار الموفى الحطبي، يليه سمك "الزينوب" (الغويزي) بأنواعه، أما بالنسبة لسمك "الجحش" فهو سيِّد المواقد والموافي على الإطلاق مع الخبز الرشوش والملوَّح والسحاوق بالجبن البلدي، أو الأبيض مع البسباس الأخضر، والطماط الطازة..

وتشتهر بتقديم كل ذلك مخابز في وسط المدينة وأطرافها وشواطئها، وبجوار أسواق السمك مقابل أجور الموفى، وكان خط الكثيب على الجانبين يمتلئ بمخابز ومطاعم رائعة، لتقديم جميع الخدمات للسائحين والزوُار والمقيمين، الذين يلجأون إلى شواطئ البحر لأخذ استراحة مع النفس والخلود إلى لحظات من السعادة والفرح بصحبة الأطفال والعوائل، ومن يحبون.

ومازالت هناك طُرق كثيرة لتقديم السمك والإبداع في ذلك، بحيث كانوا يقطِّعون السمك إلى شرائح، ويضعونها في شبك حديدي، ويتم إدخالها إلى الموفى بعد تحويجها بالبهارات المختلفة، حسب أذواق الناس بكافة شرائحهم.

يشتهر بالصيادية مطعم "مهدي" في "باب مشرف"؛ تاريخ حافل لهذي الوجبة، أما أواني اللحم الفخارية، وأواني "الصّيّادية" فهي تسيل اللعاب، وهي معروضة فوق الموقد من الفحم والنار، التي تدغدغ عصافير بطنك وشياطين الجوع.

و"الصبالية" هي أشهر أسواق المدينة الشعبية للصيادية، طعمها جنون وفنون وسحر، وخاصة مع الروتي الشاحط، وجبة شهية جدا، ولا ننسى حنيذ الأغنام، الذي يتم دفنه في الموافي بغطاء من الطين، صباحاً، لمدة ساعتين، ويُقدّم في أبهى حلة وألذ وأشهى وجبة مع الرز ظهراً، داخل المدينة وخارجها وخاصة منطقة القُطيع والمراوعة، التي تبعد عن المدينة في اتجاه صنعاء، بحوالي عشرين كيلو مترا تقريباً.

أما الحديدة ظُهراً فهي تستعد لعرس مسائي بكل معنى الكلمة، يبدأ من الحادية عشرة في أكبر أسواقها، وهو سوق "الزهور" في "باب مشرف"، الذي يشتهر ببيع الفل (وامزهر) والمشاقر، ولا نعتقد أن هناك زائراً أو مقيماً أو محباً للجمال إلا وهو يرتاد هذا السوق، الذي يقع على باب المدينة القديمة، التي تطل على البحر من جهات عديدة، ويعود محملاً بالفل بأحجامه وتشكيلاته، التي يتفنن البائعون، وأُسر كثيرة تساعدهم بهذا الفن والمجال؛ ليتناسب مع جميع الأذواق، سواء العقود التي تسمى كباش الفل، أو المشدوخ والهمش الذي يناسب النساء، وهو يتدلى من فوق روؤسهن أشبه ما يكون بالزهور المعلَّقة كحدائق بابل فوق أعناق بضَّة وناعمة، عليها حبات من العرق، الذي يشبه اللؤلؤ المكنون والحُسن المجنون، أو المتدلي، وهو مخصص للسيارات بأسمائها وأنواعها، والصدور العارمة، والنفل الذي يُباع بالألف الحبة بسعر زهيد، خاصة في مواسم الصيف وما قبلها، والفل رائحة لكل الأماكن من السيارات إلى المخادع إلى الأعناق، وفي عنق الحسناء يستحسن العقد، ومن بعد الظهيرة وحتى آخر المساء، أو الهزيع الأخير من الليل، وسوق "الزهور"، بل والمدينة كلها تتضوَّع برائحة الفل، لتجد نفسك وكأنك في الجنة بحذافيرها.

ثم يأتي الشجن والشغف اللامتناهي لارتياد أسواق القات بأنواعها، وخاصة "القات الشامي"، بالنسبة للقات المفصل، الذي كان ملك القات، وقد تم تعديله إلى "بلوط"، وتمَّ قص الأجزاء السفلية منه؛ تخففاً بداية، ثم اعتادوا على ذلك ليشغل حيزاً، وجلب كميات أكبر، لكن سيّد "القات" بالفعل هو "قات شمَّاخ"، الذي كانت مدينة "شفر" وما جاورها تمتاز به، وقد تحول إلى التصدير لجودته اللا نهائية.

رغم ظروف الحرب القاسية، التي مرَّتْ ومازالت تمر، بها هذه المدينة الدافئة، وتحول شواطئها، التي كانت مفتوحة للجميع مجاناً، إلى متنزهات غير مجانية بكل أسف، مازالت تحتفظ بقدر كبير من السكينة والوداعة، والحب والدفء، الذي يفتقده اليمنيون جميعاً.

*هذا كلُّه كان قبل 21 سبتمبر المشؤوم...

مقالات

ذكرى إعدام الماكر

أعدم علي عبدالله صالح في صنعاء وطويت حقبة رجل اختصمنا معه صحيح؛ لكن لم نكن نتمنى له تلك الخاتمة وعلى أيدي توافه البشرية..

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.