مقالات
عن الميثاق الوطني الجنوبي
آخر إبداعات ما يُسمى بالمجلس الإنتقالي الجنوبي هو ابتكار ميثاق جنوبي جديد. لا يتذكر المرء، كم عدد المواثيق الجنوبية التي خرجت بها القوى السياسية العاملة في الجنوب اليمني منذ ما بعد حرب 94. غير أن الزبيدي وحده وشلته في السنوات الست الأخيرة، ملأوا حياتنا مؤتمرات وبيانات وقرارات، كلها تحمل طابع المواقف التاريخية.
لكن هل هي محطات تأريخية بالفعل..؟ إنها تبدو كذلك من ناحية ما توحي به لغتها، أي أننا أمام" لفظانية سياسية" تتخذ من اللغة وشاحًا وتُصدّق أنها أمام حدث تاريخي، ما داموا قد خلعوا عليه بتلك الصفة ولو قسرًا. في الواقع هذه نشاطات تسويقية، تحدث لأسباب لها علاقة بسياسات المموِّل أكثر منها خطوات نحو الحلم المزعوم.
يقوم نشاط المجلس الإنتقالي، على مجموعة متتالية من الأوهام والخيالات، شعاراتهم، طموحهم السياسي، كتابات رموزهم، بياناتهم السياسية، مجمل الخطاب النظري للمجلس الإنتقالي، يتأسس على لغة أقرب للمنطق الثوري الرومانسي، أكثر منه تعبير عن جهة سياسية عقلانية ويفترض أن تكون لغتها ذات قدرا من الواقعية السياسية والتاريخية.
يذهب الزبيدي وشلته بعيدا، في سلوكهم السياسي، كما لو أن بمقدورهم تحويل الأوهام لحقائق واقعية، لمجرد المداومة عليها حتى تغدو مبادئ راسخة ومنطقية حتى لو كانت تتصادم مع أبسط قواعد المنطق. لا يعكس نشاط الإنتقالي عن كتلة سياسية ذات أهلية للحكم، بقدر ما يؤكدون بقاءهم في أطوارهم الأولى للنضال، نشطاء يطلقون الزوابع ويتحدثون عن حقهم بتقرير المصير.
في بيان المؤتمر الجنوبي الأخير، الذي أقامه المجلس الإنتقالي، هناك ثلاث نقاط يمكن القول عنها إنها جوهرية، وجديرة بالنقاش:
1/ "شعب الجنوب يقرر اسم دولته المنشودة ضمن الاستفتاء على الدستور."
2/ "شعب الجنوب يعبر عن إرادته عن طريق الاستفتاء والانتخابات النزيهة."
3/ "شعب الجنوب صاحب سيادة وإرادته مصدر كل شرعية أو قرار مصيري."
يقول بيان الميثاق الوطني الجنوبي: إن شعب الجنوب يقرر إسم دولته، ذلك أنه يملك إرادة ولسوف يُعبِّر عنها، كما أنه صاحب سيادة وإرادته مصدر شرعيته. حتى هذه النقاط وهي أبرز ما جاء في بيان الميثاق الوطني الجنوبي، مصاغة بطريقة ارتجالية ولا تصمد أمام أي نقاش فاحص، لمضمون المفاهيم الثلاثة الكبرى: السيادة والشرعية والإرادة.
يتحدث الزبيدي عن السيادة كما لو كانت صفة شخصية يمكن لأي زعيم شلة أن يدعيها لنفسه أو يزعم أن هناك من منحها له، لمجرد أن لديه تشكيلات مسلحة ويتصدر الحديث عن القضية الجنوبية. هذا الخطاب المدبوج ليس فقط يتأسس على ادّعاء وهمي؛ بل ويعكس خفة عقل فاضحة. نحن أمام شلة مراهقين وليس كتلة سياسية مؤتمنة على مصير شعب.
في حديثهم عن منشأ السيادة والشرعية، يبذل فلاسفة القانون جهودًا عسيرة، كي يشرحوا ما الذي يمنح سلطة صفة السيادة وما الذي يجعل قانون ما ذا طبيعة شرعية. هناك جدل كبير حول المنبع الأساسي للسيادة والشرعية وما بينهما القانون. هل اكتساب سلطة ما للسيادة هي صفة يمنحها لها الشعب، بمعنى هل السيادة صفة لاحقة وتابعة للمشروعية، أم أن حقها بإصدار القانون هو ما يجعلها ممثلة للسيادة، ثم ما الذي يمنحها حق إصدار القانون، وكيف تكتسب مشروعيتها من قانون تصدره. هل يكفي الزبيدي أن يقول إن الشعب الجنوبي صاحب سيادة؛ كي يغدو ممتلكًا الحق بالحديث عن الشرعية وإرادة الناس وحقه بعمل ميثاق جنوبي كما لو كان الميثاق أشبه بقانون مرحلي وتأسيسي، يُمهِّد للدولة المنتظرة..؟
السيادة، الشرعية، الإرادة الشعبية.. هذه المفاهيم المركزية، تتحول لشعارات غوغائية حين تستخدمها جماعات لا تفقه في مبادئ الدول شيئًا. الزبيدي، ليس رجل قانون، كما أنه قبل ذلك ليس رمزًا مؤهلًا لاستعادة دولة. نحن أمام جندي قفز من الجبال، ووقف على رأس قوة عسكرية مليشاوية، ثم شكّل مظلة سياسية وراح يصيغ البيانات ويتحدث باسم شعب الجنوب وإرادته وشرعيته وسيادته. هذا أعلى تجلى للعبث السياسي في مراحل التيه من تاريخ الشعوب.
الحديث أعلاه، لا يقلل من خطورة ما يقوم به المجلس الإنتقالي، لكنه تبيانًا لعبثية مساره، ومع ذلك:
لا يمكن تجاهل خطورة ما يقوم به الزبيدي وخطواته الرامية لخلخلة الكيان الوطني اليمني والموحّد. وهو نشاط يرقى لمستوى الخيانة الوطنية. ذلك أنه شخص يتقلد صفة رسمية في الدولة ويعمل تحت الغطاء القانوني للجمهورية اليمنية، ولهذا يتوجب مجابهته وعدم الاعتراف بما يقوم به.
يعتقد العليمي ومن تبقى من رموز المجلس الرئاسي أن بمقدورهم مسايرة الوضع الملتبس في الجنوب، وتقبل العيش تحت جناح الإنتقالي، لكأنهم واثقين من قدرتهم على مداراته؛ لكن الواقع يقول، إن تساهلك مع ما يقوم به شريكك من تخريب للأرضية الوطنية، سيجعلك تدفع الثمن من مصير شعبك، حتى لو لم يتمكن الزبيدي من تحقيق أوهامه. فالخطر يظل قائمًا على مصير البلاد كاملة. شمالا وجنوبًا.
الخلاصة: لقد صار المجلس الرئاسي بمثابة كيان صغير ملحق بما يسمى المجلس الإنتقالي، هذا الإنقلاب في المعايير، يكشف لنا مستوى المهزلة التاريخية التي تحدث في اليمن. لم يعد الزبيدي دولة داخل الدولة، بل دولة فوق الدولة. ولئن كان الزبيدي شخصية ليس لديها مانع أن تواصل عبثها بالثوابت الوطنية وتواطؤها مع جهات خارجية لتخريب الكيان اليمني، فالعار يظل باقيًا فوق رؤوس مكونات المجلس الرئاسي، أولئك الذين يتقبلون هذا الوضع الملتبس ويفتقدون للقدرة على اتخاذ موقف يلجم ما يقوم به الزبيدي وشلته.