مقالات
عن "اليأس اليمني"
الجميع محبطون: المثقفون والبشر العاديون، القادة والأتباع، الشعراء والمحللون السياسيون، الجميع في جاهزية عالية لبث الخوف، اليأس -وهذا الأخير قرين العجز- في المجتمع.
تتردد فكرة مشاعة: "العقول الجيّدة متشائمة"؛ لكأنّ التشاؤم رديف العبقرية، لا أدري من قال بهذه الفكرة. إنها ليست واردة بأي كتاب، كما يقول ديستوفسكي. هناك تشاؤمية ساذجة لا تقل تضليلًا عن تهمة التفاؤل الحاجب للوعي.
لدينا متشائمون عميان، تشاؤم رومانسي أقرب إلى الانفعالات السطحية، يفتقد لعمق التجربة التشاؤمية، ولا يخلّف وراءه سوى تأففات خاوية من أي معنى قادح للذهن. حتى إنه تشاؤم لا يساهم في إنارة البُعد المأساوي في الحياة. لربّما إنهم بحاجة إلى نيتشه؛ كي يعلمهم كيف يتشائمون بطريقة فعّالة.
هذا النوع من التشاؤم هو النقيض المقلوب لمتفائلين يرددون عبارات، هي الأخرى، خاوية من الدلالة الحيّة، تفاؤلات واهية وعاجزة عن شحن المجتمع بوعي نشط أو تسريب رؤية واضحة له لما يتوجّب عليه فعله. كلاهما حالات فارغة ولا قيمة تفاضلية لأحدهما على حساب الآخر.
حسنًا، والحال هذا، ومن بين كل أنماط الوعي والخطاب، الفلسفات والآداب، أميل لذلك الوعي الدافع للحياة، الوعي الجذري بما يدور في العالم، ويصح وصفه بتعبير آخر "الوعي الكلي"، يكشف لي حقيقة الواقع كما هو؛ لكنّه لا يتركني فريسة جو سوداوي. يورثني وضوحاً في فهم اللحظة؛ لكنّه جوار ذلك، يمنحني صورة شمولية، تخفف من قتامة الجو العام.
أميل إلى هذا النمط من الخطاب، بأي لغة كتب بها، تعابير حادة وكئيبة أو لغة ابتهاج حيّة، رومانسية أو عقلانية، ما هو مهم أن اللغة فيه ذات نبرة متحدّية وواثقة بقدرة الكائن على قلب الواقع، بتوصيف أدق يمكن القول عنها - بشيء من التجاوز في التعبير- "العلم المرح" وفقا لتوصيف نيتشه، وعي لا يوقفه حد، ولا يخضع لرهبة الأحداث، يمضي محتفظاً بحيويته الداخلية وسط كل الاضطرابات، يحيل الأسوار المرفوعة إلى مرايا، ويبصر الأفق من قلب الواقع المسدود.
لست هنا باحثاً عمّن يبيعني وهماً، لكن المقصد هو أن يقول لك المثقف: إن هذا الواقع ليس كل شيء، وإن تاريخ البشر كله كان غالباً صورة مماثلة لواقعنا، أو تقترب منها. وأعني هنا تاريخ حياة الإنسان. وأنك لن
تكون سعيدا بمجرد صلاح الوضع العام، كما ليس بالضرورة أن تكون تعيساً بشكل دائم، لأن الوضع العام مختلاً. هي هذه طبيعة الحياة في كل مكان، خليط من المخاوف والآمال المحبطة والإمكانيات الباقية، وأن مصيرنا مرتبط بطريقة تنظيمنا لأنفسنا، وأن عليك أن تفعل كل ما يمكنك فعله كل يوم، هذا هو المهم، في أي وضع أنت فيه، ما هو مهم، فاعليتك ونزاهة، ضميرك وموقفك، في أي لحظة أنت فيها، استقرار أو اضطراب، حرب أو سلام، فقر أو غنى، عليك ألا تتوقّف عن مناجزة العالم حتى النهاية.
فجوهر الحياة هو جدل مستمر مع فكرة العيش دونما توقّف. هناك تعريفات كثيرة للمثقّف، وكل تعريف يطرق المفهوم من زاوية معيّنة، غير أنني هنا أميل إلى تعريف المثقف من زاوية أثره الوجداني، ومدى الرؤية لديه، قدرته على رؤية ما هو أبعد من اللحظة القاتمة.
أتذكر هنا أبيات أوردها المقالح عن الأديب اليمني الراحل، أحمد قاسم دماج، يقول المقالح عن رفيقه: "فقد كان أكثرنا حكمة واحتمالاً إذا عبس الخطب، بل كان أكبرَنا في اجتراح الرؤى النافذة".
لا أدري لماذا أجدني ميّالاً نحو هذا الدور للمثقّف، لربما أن ارتفاع منسوب اللغة السوداوية والخطابات المحبطة تجعلنا أكثر تشبثاً بكل قول يجتهد؛ ليخترق هذه الصورة التي يود البعض تعميمها باسم التفكير العقلاني والواقعي، وتحت مبرر مكاشفة الناس؛ بدلًا من تضليلهم؛ لكأنّك لا تستطيع مكاشفة الناس إلا بطريقة تحبطهم؛ لكأنّ التثقيف قرين بث اليأس أو يستدعيه بالضرورة، فيما لا أرى الثقافة كذلك.
ماذا يحب الناس في المثقف..؟ قدرته على بث الأمل القوي الواسع. تلك الطاقة الحيوية المتجددة بداخله، إنه لا ينطفئ، لديه دائما مشعل داخلي يهبه تلك الجسارة على مواصلة الدرب، مهما تشوّشت الطريق أمام الجميع. ماذا يريدون منه..؟ منحهم حالة من الوضوح الواقعي مع قدرة على استنفار بواعث القوّة لديهم. إنه يتمتع بالقدرة على الارتفاع فوق اللحظة الخانقة، ويشق مسارات للعبور، يقدح فيهم شرارة حين تنطفئ كل المصابيح حولهم.
بدون هذه الوظيفة، يغدو المثقف حالة كسيحة، تتهاوى قبل الجماهير، وتنكفئ على ذاتها، وما يزالون في الخارج يتلمّسون الطريق، يفتشون عمّا سيقوله لهم المثقف، فيما هو قد استُنفد، تهاوى وربما أسلم الراية للقدر والمصير، من قبلهم.
الخلاصة: من قال إن البشر يحتاجون إلى الشعور بالأمل حين يكون الواقع يبعث على التفاؤل، هذا وعي مقلوب، فالعكس تماما هو الصحيح، يحتاج الإنسان إلى توليد الأمل القوي، لحظة اشتداد بواعث اليأس. في هذه اللحظة القاتمة تكمن وظيفة الأمل، وهنا تحضر مبرراته. هناك مقاربة رائع لهاتين الفكرتين (الأمل واليأس) في مقالة رفيعة للمفكر السوري، ياسين الحاج صالح، يقول فيما معناه: إن نقيض الأمل ليس اليأس، بل الأمل الساذج. أو التفاؤل السطحي. فيما اليأس هو شرط ميلاد الأمل الحقيقي، أي إننا نحتاج إلى توليد الأمل، أو ربما يتولّد بذاته، حين تنتفي كل أسبابه الواقعية، حين يهجم علينا الواقع بكل مخالبه ونصبح في وضع مجردين فيه من كل إمكانية للنجاة.
في حالة كهذه -وهي حالة تشبه واقعنا اليمني اليوم- حيث الأفق مسدود والخيارات منعدمة، ومصيرنا مكشوف ولا ندري ماذا بوسعنا أن نفعل ومن أين نبدأ. إنها لحظة تحمل في أعماقها كل أسباب الكآبة ودواعي الاحباط، ولهذا نحن نحتاج إلى ذلك النوع من المثقف الحيّ، لديه فائض عافية يستمدها من قوة المعنى لديه، المثقف القادر على الوقوف أمام المأساة، بثبات وبصيرة، صارخاً في الناس: الواقع مسدود، ومصادر قوتنا تكاد تكون متلاشية، الحياة صعبة وستظل عسيرة لأمد طويل، لا نعِدكم بانفراجة قريبة، ولا نستطيع أن نبيع لكم الوهم؛ لكننا مع هذا كله، علينا أن نتذكر شيئاً واحداً، أساسياً وموثوقاً: إن هذا الواقع ليس كل شيء، لا تستمدوا رؤيتكم للحياة من ارتباكات اللحظة العابرة، لا تدعوا أنفسكم فريسة لواقع ثقيل كما لو أنه المحدد النهائي للمستقبل والمصير. لا تدعوا الواقع الشاذ يسطو على أرواحكم، ولا تتخذوه منظاراً للرؤية. هناك القيمة والمعنى، المعيار والفكرة، المنطق والحق، وهذه مصادر قوة بأيديكم ويمكنكم تفعيلها لمدافعة واقعكم الرّث.
نحن أبناء هذه الأرض، نحن أصحاب الحق الأبدي في حكمها، مالكو مصيرها، ومصدر شرعيتها، أنتم العنصر الوحيد والخالد في معادلة الصراع بكلها. كل أطراف الحرب الداخلية والخارجية لا يملكون شيكاً مفتوحاً للعبث بها، وليس لهم الحق لاحتكارها. سيعبثون فوق خشبة المسرح طويلا، وهذا محزن لنا، وعلينا مدافعتهم بكل السُّبل. لديهم القوة الخشنة، وليس لدينا ما يوازيها، هم في الظاهر أقوياء؛ لكنهم ليسوا أقوى منكم، لا توجد قوة في الكون أكثر خلودا وتحمل كل عناصر القوة مثلكم أنتم، البشر العاديين، الخائفين من المجهول، الجمهور المبعثر والمنهمك في تدبير حياته اليومية، القطاع العريض من الشعب، ذلك الذي لا يمثله أي طرف من القوى المتصارعة، أنتم أهل هذه البلاد.
كل ما في الحياة يجب أن يكون أداة لصناعة حياة هادئة لكم، وما لم يكن كذلك فهو زائف ومنفصل عنكم مهما امتلك من قوّة، ومهما بدا لكم أنه تحكم بمصيركم للأبد، يظل أكثر هشاشة مما تتصوّرون. كل هذه الأدوات الطافئة على السطح، من تستقوي عليكم وتستعرض حشودها شمالا وجنوبا لترهبكم، مهما طال بها الزمن، ستخفت يوما، وستظلون الكتلة الوحيدة، الطيف الذي لا يغيب.
فقط عليكم أن تؤمنوا بأنفسكم، تستمرون برفض هذا الواقع المختل، يكفي أن ترفضوه بكل الطرق المتاحة لكم، ليس مهمًاً أن تتمكنوا من دحر كل القوى المتصارعة، يكفي أن تقولوا: لا، لهذه المهزلة، عليكم أن ترفضوا كل الصيغ المشوّهة التي يحاول هذا الطرف أو ذاك فرضها عليكم. لستم مسؤولين عن النصر أو الهزيمة، نزاهتكم الأخلاقية تقتصر على الرفض. حتى لو بدوتم خاسرين بمعيار اللحظة، فهي خسارة نزيهة، انكسار نبيل، ما دام شرفكم الأخلاقي محروساً من اللوثة العامة.
يحاولون استغلال مخاوفكم من الغد، يشعرون بأنكم منهكون، وأن اللحظة مناسبة؛ كي يرسموا لكم أي طريق، ولسوف تتقبلونها. ومهما يكن وضعكم محبطا وحياتكم قاسية، يجب أن تظل صرختكم عالية. وليكن هذا اليأس الناشب في حياتكم مولدًا للأمل، ولتكن صرختكم صرخة يائس، خسر كل شيء، ومستعد لفعل أي شيء؛ كي ينتصر لوجوده، ويحيا موفور الكرامة، حارساً مصيره للأبد، يضمّد جرحه، ويبتسم ويؤمن أن المستقبل لنا نحن الذين مررنا بكل الدروب الشائكة ولم نساوم، لم نستسلم، ولذلك لن ننهزم.
هذه الحياة الخفيضة، التي نعيشها، لا تليق بقداسة الإنسان، ومن المهم ألا يسهم الواقع المشوّه في تطبيع علاقتنا بها.
من المهم أن نظل متشبثين بصيغة حياة عليا، حياة زاخرة وثريّة، حياة يتفتق فيها الوجود البشري بأعلى مستوياته، ويحقق فيها الإنسان ذاته بكل ما فيها من ممكنات دفينة، حياة تفسح فرصة ليمتحن فيها المرء قواه الحيّة، يستولد ما هو كامن ويوظف ما هو جاهز، تلك هي الصيغة الرفيعة اللائقة بالإنسان، وعليه أن يرفض كل ما دونها من نماذج حياة سالبة، ولن يكون ذلك -بدون أمل قوي ومحتد- دافعا حيا ومتماسكا حتى الأبد.