مقالات
قناة بلقيس.. تجربة مغايرة
6 سنوات كافية كي تثبت فرادة التجربة، إنها ذكرى تأكيد للمؤكد فحسب، أما حقيقتها فقد تجلّت منذ انطلاقتها وبدت حاملة بذور الصعود الكبير، حيث الشرارة تنبئ عن المصير، والمضمون يفصح عن جوهر الحكاية المتمايزة عن كل النوافذ الإعلامية الحاضرة في الساحة.
الحديث أعلاه عن الذكرى السادسة لتأسيس قناة "بلقيس"، من الجيد ألاّ تمر ذكرى كهذه دون وقفة لقراءة مسيرتها، ورصد ما تنطوي عليه التجربة من خصائص متميّزة، وإضافات جعلتها جديرة بالمستوى الذي وصلت إليه.
بداية: إن كان هناك من عامل جوهري يقف خلف النجاح الكبير الذي تمكّنت قناة "بلقيس" من تحقيقه، فالأمر باعتقادي يتمثل في امتلاك القناة رؤية إعلامية دقيقة وسياسية تحريرية واضحة، هذا مبتدأ الحكاية، مع التنويه أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الرؤية مكتوبة بصورة كاملة منذ البداية؛ لكن أثر الرؤية يتجلّى كتصور مذاب داخل ذهنية الكادر الوظيفي المُنتج للمحتوى، وهذا هو الأهم.
ثم تأتي بقية العوامل المهنية والفنية والإدارية كمقوّمات صانعة للنجاح، ومترجمة للسياسة الإعلامية لمضمون مباشر ومنسجم مع الخطوط الناظمة للقناة وتوجهها.
وكي نربط التفسير أعلاه بالدافع الأساسي المولِّد للرؤية، يمكننا القول: إن وضوح الرؤية الإعلامية لقناة 'بلقيس' وانتظام الخط التحريري لها بشكل مرتب، هو انعكاس طبيعي لوضوح الموقف الوطني للقائمين على القناة من مختلف القضايا العامة، وانتهاجهم موقفا متناغما مع المبادئ الحقوقية والإنسانية والديمقراطية، دونما تحايل ولا انتقاء ولا تجزئة.
هذا الالتزام القِيمي المبدئي والحاسم تجاه القضايا الكبرى، هو ما يضاعف من وضوح القناة واتساق مواقفها، والنتيجة هي بروز هوية إعلامية بملامح شفافة، وترسخها في الذهنية العامة، وتعزز موثوقيّتها لدى المشاهد، وهذا بالطبع عامل إضافي لتوسعة جمهور القناة، وتزايد حالة التشابك بينها وبين الناس.
بلغة أخرى: قدّمت قناة "بلقيس" نفسها كحاملة للمشروع المدني ومدافعة عن مصفوفة الحقوق والحريات في بلاد تعاني من هشاشة كبيرة في هذا الجانب. فغالبية العاملين فيها يمثل لهم النهج المدني مشروع نضال وجودي، قبل أن يكون وظيفة مؤسسية، هذا الجانب القِيمي لا يمكن أن يكون مفصول الأثر عن أسباب نجاح القناة، حيث الإلتزامات الأخلاقية المدنية رافعة متينة للصعود.
بدأت "بلقيس" بكادر إعلامي متنوع وذي خلفيات متعددة، ودونما اشتراطات توظيف خاضعة لأي اعتبارات أيديولوجية أو انحيازات سياسية معيّنة، هذه المرونة المبدئية شكّلت فريق عمل يمتاز بالثراء وانعكست خصائص فريقها على مضمونها وطبيعة تناولها للقضايا برؤية مركّبة وفيها قدر كبير من الحرية.
منذ البداية، تعمّدت قناة "بلقيس" التنقيب عن كل الحالات الإبداعية في المجال الإعلامي (مراسلين، مصورين، مذيعين، مقدمي برامج وكتّاب محتوى)، وحتى على مستوى متابعتها لمخرجات كلية الإعلام، تعمل على توفير نوافذ للطلاب المتميّزين، ووجدوا ذواتهم معها أكثر من أي بيئة أخرى، وهكذا تمكّنت القناة من تقديم نفسها كفضاء حيوي جذاب لكل النماذج المتميّزة وذات الحضور الفعّال.
وكنتيجة طبيعية لامتلاك القناة كادرا حيويا، تجد أغلب العاملين فيها لا يقتصر حضورهم على القناة فحسب؛ بل يمتازون بحضور شعبي في مواقع التواصل، ومنخرطين مع قضايا الناس بشكل دائم. هذا التداخل الفعّال يعزز من رمزية الصحفيين والإعلاميين، ويُنتج حالة تواشج شعبي معهم، وهو أمر يصبّ في صالح القناة بالطبع، ومضاعفة حضورها.
تجربة قناة "بلقيس" كسرت حالة الجمود الإعلامي في القنوات اليمنية، وقدّمت نفسها كحالة نموذجية دائمة النمو، وتمتاز بإدارة مرِنة ومتجددة، على مستوى أدائها ومضامينها، وكذلك على المستوى الفني والبصري. هذه التجربة خلقت محفزا لبقية القنوات اليمنية؛ كي تحاول كسر الأداء النّمطي الرتيب، واستدخال عنصر التجديد في أدائها وطابعها العام.
هناك من يحاول اختزال نجاح "بلقيس" لأمر يتعلق بالتمويل، فيما الحقيقة أن هذا تبسيط لا يشرح القصة.
لا أظن أن عنصر المال هو النقطة المركزية لنجاح أي مشروع إعلامي، بل الإدارة، قد يكون المال عاملا أساسيا؛ لكن شرط فاعليته يكمن في العقل الذي يديره، فالمال وحده لن ينتج مؤسسة إعلامية ناجحة ما لم يقترن بحُزمة عوامل أخرى، تحيل المادة المجردة إلى قصة نجاح ملهمة ونابضة بالحياة.
الخلاصة: في ظرف قصير تمكّنت قناة "بلقيس" من تقديم تجربة إعلامية مغايرة، وشكّلت بذلك نقلة نوعية في عالم القنوات الأهلية، ولا شك أن هذه التجربة تعد إضافة ملهمة للإعلام اليمني، طوال تاريخ نشأته.
قبل "بلقيس" كانت هناك تجارب عديدة لقنوات يمنية خاصة وأهلية؛ لكنها ظلت جميعها تجارب نمطية، ودونما أي انتقالات نوعية في الأداء والطابع والمضمون، جاءت "بلقيس" ورفعت مستوى الأداء شكلا وروحا، وهنا مكمن تميّزها، والإضافة التي قدّمتها.