تقارير
موقف السعودية من الحوثيين.. حسابات خاصة أم إملاءات أمريكية؟
في كل منعطف محلي أو إقليمي له تأثير على الأزمة اليمنية، تتجه أنظار اليمنيين إلى ما ستقرره السعودية بشأن بلادهم، وآخر تلك المنعطفات تفكك المحور الإيراني، وسبب ذلك أن السعودية صادرت القرار السياسي والعسكري للحكومة اليمنية الشرعية منذ تدخلها العسكري في البلاد، وتعد الطرف الإقليمي الأكثر تأثيرا في الأزمة اليمنية ومسار تحولاتها، سواء التهدئة وبناء مسار سياسي، أو استمرار حالة الجمود والصراع المفتوح.
وفي حين يأمل اليمنيون استغلال الفرص الآنية لإنهاء الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة، تتباين التوقعات بين التفاؤل الحذر والخشية من تعقيدات جديدة، بسبب طريقة إدارة السعودية للأزمة اليمنية، فهي لن تساعد اليمنيين على استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، ولن تسمح لهم بفعل ذلك حرصا منها على بقاء الحوثيين طرفا فاعلا في البلاد، كما أنها غير قادرة على إنجاز تسوية سياسية تضمن سلاما مستداما يبدأ بمرحلة انتقالية لإزالة آثار الحرب ونزع سلاح المليشيات وتسليمه للدولة، بسبب تعنت المليشيات ورفضها للسلام.
وفي الوقت نفسه، تبرز الولايات المتحدة الأمريكية كأبرز الفاعلين الدوليين في اليمن والمنطقة بشكل عام. ومع أنها تعد الحليف الأبرز للسعودية وتتولى مسألة حماية أمنها وفق اتفاقية سابقة بين البلدين في حال واجهت المملكة تحديات خطيرة، لكن الأزمة اليمنية كشفت عن تباينات بين الطرفين بخصوص طريقة إدارة تلك الأزمة، لا سيما ما يتعلق بالمستقبل السياسي للحوثيين ووضعهم العسكري وموقعهم في العملية السياسية، وأيضا مستقبل الوحدة اليمنية والنظام السياسي للبلاد.
- الأزمة اليمنية وأمن المملكة
تدرك السعودية أن أمنها القومي يرتبط بأمن اليمن واستقراره، خصوصا أن الأزمة اليمنية الراهنة وارتباطاتها الإقليمية تؤثر مباشرة على أمن المملكة واستقرارها، ولن يتحقق استقرار السعودية واليمن إلا بإنهاء الانقلاب الحوثي. أما حرص السعودية على بقاء الحوثيين كطرف رئيسي وفاعل في خاصرتها الجنوبية، فذلك يعني استمرار تهديد أمنها القومي على المدى الطويل، حتى وإن كانت تعتقد أنه بإمكانها احتواء الحوثيين أو ردعهم في حال عاودوا تهديدها فعليا.
وإذا كانت السعودية فيما مضى تخشى من تكتل المحور الإيراني ضدها في حال قررت دعم الحكومة اليمنية حتى القضاء على الحوثيين، فما المبرر الآن بعد انهيار أبرز أعمدة المحور الإيراني، وانكفاء إيران على نفسها وعدم تدخلها عسكريا للدفاع عن حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد في سوريا؟ وهل إدارة السعودية للأزمة اليمنية تعكس حسابات خاصة، أم أنها تطبيق لسياسات أمريكية؟
وهل فعلا تتعامل أمريكا مع السعودية كوكيل إقليمي في المنطقة وتملي عليها ما الذي يجب عليها أن تفعله وما لا يجب فعله، بينما تكتفي هي، أي واشنطن، بالقيادة من الخلف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل السعودية تنقاد بشكل أعمى وراء الإملاءات الأمريكية دون مراجعتها ودراسة مدى تأثيرها على مستقبل المملكة؟ وإذا كانت السعودية تدير الأزمة اليمنية كشأن خاص وبتفويض أمريكي، فهل طريقة تلك الإدارة تعني أن الأحقاد غلبت المصالح أم أن العقل الإستراتيجي السعودي مخترق؟
- السعودية كوكيل إقليمي لأمريكا
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت محورا أساسيا للسياسة الخارجية الأمريكية، والسعي لتأمين مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وكان ما يُعرف بـ"مبدأ نيكسون" أحد المعالم الرئيسية لتلك السياسة، والذي اعتمد على دعم وكلاء إقليميين لتأدية دور الحارس لمصالح واشنطن بدلا من التدخل المباشر، وظل يتطور على مر الزمن، حتى شهد تحولات كبيرة بعد حرب أكتوبر 1973، مما دفع واشنطن إلى إعادة التفكير في سياستها تجاه إيران (الشاه) والسعودية، الحليفين الإستراتيجيين الأبرز في المنطقة.
بدأت الولايات المتحدة العمل بمبدأ نيكسون في أواخر ستينيات القرن العشرين كاستجابة للتحديات السياسية والاقتصادية التي واجهتها بسبب الحرب في فيتنام، وتضمن ذلك المبدأ تقليل التدخل الأمريكي المباشر في النزاعات الدولية، والاعتماد بدلا من ذلك على دعم دول إقليمية لأداء أدوار حيوية لحماية المصالح الأمريكية.
وقد كانت إيران، في ظل حكم الشاه، تؤدي دورا محوريا في حماية المصالح الأمريكية، خصوصا أن موقعها الجغرافي كان محاذيا للاتحاد السوفيتي، الذي كان يتطلع للتمدد صوب منطقة الشرق الأوسط. وتضاف إلى تلك الأهمية الجغرافية، الاستثمارات الأمريكية الضخمة في تحديث الجيش الإيراني عبر مبيعات الأسلحة، مما جعل إيران (الشاه) ركيزة أساسية في الإستراتيجية الأمريكية حينها، وكان موقع إيران الجغرافي كافيا لمواجهة أي محاولة تغلغل سوفيتية في الشرق الأوسط أو دعم حركات التحرر في الوطن العربي.
وعلى الجانب الآخر، كانت السعودية تمثل الحليف الاقتصادي والعسكري لواشنطن، بموقعها الجغرافي المهم ومخزونها من النفط وإمكاناتها المالية الهائلة. وبعد حرب أكتوبر 1973، التي أعقبها حظر نفطي من جانب دول الخليج على الغرب، مما شكل تحديا خطيرا للولايات المتحدة، أعادت واشنطن النظر في مبدأ نيكسون، والبحث عن أساليب جديدة تضمن بقاء مصالحها دون التعرض لتهديدات اقتصادية كبرى مثل تلك التي أحدثها الحظر النفطي.
ونتيجة لذلك، كان الحل البديل يتمثل في الانتقال نحو "إستراتيجية الردع والتطويق"، حيث بدأ التركيز على بناء وجود عسكري في منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي لضمان السيطرة على طرق إمدادات النفط، كما أعادت واشنطن توجيه تحالفاتها نحو تعزيز شراكاتها مع السعودية لتحقيق هذا الهدف، حيث تملك السعودية القوة الاقتصادية والنفطية التي تجعلها قادرة على تنفيذ السياسات الأمريكية في المنطقة، وتمويل مشاريع عسكرية وسياسية تضمن استقرار المنطقة بما يخدم المصالح الغربية.
ومع صعود التوترات في المنطقة خلال العقود الأخيرة، خصوصا فيما يتعلق بالحرب في اليمن، كان الدور السعودي مثار جدل، فهل إدارتها للأزمة اليمنية تعكس توجهاتها وسياستها إزاء اليمن منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، أم أنها تتحرك وفقا للإملاءات الأمريكية؟ وهل ما زالت واشنطن تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة عبر وكلاء إقليميين؟ وهل تمثل السعودية الامتداد الطبيعي لتلك السياسة الأمريكية القديمة؟
- بين التوافق والاختلاف
لا شك أن السعودية وكيل إقليمي للولايات المتحدة، التي تستخدمها كقفازات للتأثير في صراعات الإقليم، أو التدخل المباشر في بعض الصراعات بذريعة حماية أمن المملكة، لكن ما لا تدركه السعودية هو أنها أيضا ستكون هدفا لاحقا للسياسة الأمريكية في المنطقة، التي تتخذ من مسألة حماية الأقليات الطائفية والعرقية مدخلا لتفخيخ المنطقة وتفجيرها بصراعات طائفية وغيرها تمهيدا لإعادة رسم خرائطها، والبدء من مناطق الصراعات والمجتمعات الهشة التي مزقتها الحروب، وبعد ذلك ستنتقل عدوى الانفصال والحكم الذاتي والتفتيت، تحت لافتات مختلفة، إلى بقية البلدان التي تبدو الآن أكثر استقرارا.
في الحالة اليمنية، كان لافتا أنه منذ بدء الحرب، أُوقِفت المعركة ضد الحوثيين، واتجه التحالف السعودي الإماراتي إلى دعم انفصال جنوب اليمن، وتشكيل مليشيات وكيانات متنافرة. وبعد التحولات الأخيرة في المنطقة، وازدياد المطالب الشعبية في اليمن بالقضاء على الانقلاب الحوثي، كان مفاجئا إعلان أتباع الإمارات في سقطرى إعلان الحكم الذاتي هناك، في حين استأنفت السعودية جهود السلام رغم تعثر هذا المسار ولا أمل في تحقيقه، في الوقت الذي تهدد فيه إسرائيل وأمريكا وبريطانيا بتوجيه ضربات قاسية ضد الحوثيين تشل قدرتهم على تهديد الاحتلال الإسرائيلي أو تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
ومع ذلك، فما زال الغموض حاليا هو سيد الموقف، فهل التهديدات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية بتنفيذ ضربات قاسية ضد الحوثيين تهديدات جادة أم مجرد محاولات للضغط عليهم للقبول بالتسوية السياسية التي تقودها السعودية، أم أن هناك جدية في توجيه ضربات شاملة ضد الحوثيين، بينما جهود السلام التي تقودها السعودية يُراد منها إظهار حسن النوايا من جانب المملكة لتجنيبها هجمات الحوثيين حتى لا تتضرر إمدادات الطاقة؟
من الواضح أن السعودية لم تعد ترغب في الانخراط مجددا في الحرب باليمن، ومن الواضح أنها لا ترغب أيضا في القضاء على الحوثيين وإزاحتهم من المشهد اليمني، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة فهي أيضا لا ترغب في القضاء على الحوثيين وإنما تهدف إلى إضعافهم وردعهم عن تهديد مصالحها ومصالح إسرائيل. وإذا كانت السعودية ترى في الحوثيين أداة لإضعاف اليمن وتفتيته وجعله في حالة مزمنة من اللاسلم واللاحرب، فإن الولايات المتحدة ترى أن بقاء الحوثيين كطرف فاعل في اليمن سيحقق هدفها في استمرار حاجة السعودية للمظلة الأمنية الأمريكية بذريعة مواجهة تهديدات الحوثيين، وما يترتب على ذلك من تواجد عسكري أمريكي دائم في المنطقة سيتم توظيفه في صراعات أخرى.
ويعني ذلك أن المعادلات الجديدة التي فرضتها التحولات الإقليمية لن تجبر بعض الأطراف الفاعلة على الانجراف في تيارها، فالسعودية يبدو أنها جادة في استئنافها جهود تحقيق السلام في اليمن، ليس لأنها ستنجح في ذلك، ولكن بهدف إنقاذ الحوثيين من مصير مشابه لمصير بشار الأسد، خشية من أن يؤثر ذلك على التوازنات القائمة في اليمن، التي هندسها التحالف السعودي الإماراتي طوال عشر سنوات.
كما أن السعودية والإمارات تعتقدان أن إنهاء الانقلاب الحوثي في الوقت الراهن ستنعدم معه مبررات تواجدهما العسكري في اليمن، وستكون البلاد على أعتاب مرحلة جديدة من الاستقرار والعملية الانتقالية، في حين أن مشاريع تفتيت البلاد التي يهندسها التحالف السعودي الإماراتي لم تترسخ بعد، وستذهب خسائرهما في هذا الصدد هباء منثورا إذا استعاد اليمنيون الدولة وأنهوا الانقلاب الحوثي واتجهوا نحو بناء البلاد بعيدا عن وصاية الرياض وأبو ظبي.
- حرب أم سلام؟
واللافت أن جهود السلام التي استأنفتها السعودية تتزامن مع حديث مصادر إعلامية عن ترتيبات أمريكية وبريطانية لشن عملية عسكرية واسعة ضد الحوثيين في الحديدة، وذكرت المصادر أن الرغبة الأمريكية تصطدم حاليا "بمخاوف سعودية" من عودة الحرب من جديد. وفي الوقت نفسه، تحتضن الرياض تحركات دبلوماسية تتناقض التكهنات بشأنها، فهل تأتي ضمن استئناف المملكة جهودها للسلام في اليمن، أم أنها تشير إلى احتمالية البدء بعملية عسكرية ضد الحوثيين وتتم بتنسيق أمريكي؟ فضلا عن ذلك، هناك توقعات بأن تنفذ إسرائيل عمليات عسكرية شاملة بعيدة المدى على مواقع مليشيا الحوثيين، وفقا لتصريحات مسؤولين إسرائيليين.
إذن هناك نوع من الغموض في طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية مع الأزمة اليمنية في الوقت الراهن، فعلى الرغم من التوافق في الخطوط العامة بينهما بشأن الملف اليمني ومختلف الملفات الساخنة في المنطقة، لكن هناك نقاط اختلاف تتكشف من حين لآخر، لا سيما ما يتعلق بالأزمة اليمنية. ومع أن السعودية أعلنت عن عملية "عاصفة الحزم" من واشنطن، مما يوحي بالمساندة الأمريكية الكاملة للرياض، لكن برزت خلافات فيما بعد، كان من أهم مظاهرها أن واشنطن وجهت سهام نقدها للسعودية بسبب انتهاكتها لحقوق الإنسان في اليمن وقتل المدنيين خصوصا الأطفال والنساء.
كما ألغت واشنطن عددا من صفقات الأسلحة حتى لا تستخدمها الرياض في حرب اليمن، وسحبت دفاعاتها الجوية من السعودية بعد تعرض منشآتها النفطية لهجمات حوثية، كل ذلك دفع السعودية إلى تنويع علاقاتها الخارجية مع قوى تعد بعضها معادية لأمريكا، مثل روسيا والصين، لإيجاد بدائل لمصادر الأسلحة، والهرولة للمصالحة مع إيران والحوثيين، بعد شعور الرياض أن حليفتها واشنطن بدأت بالتخلي عنها.
غير أن الزلزال الإقليمي المتمثل في تراجع المحور الإيراني وتفككه، قد يدفع كلا من السعودية وأمريكا إلى إعادة تقييم أولوياتهما وفقا للمستجدات الطارئة. وبصرف النظر عن مساعي السعودية لتحقيق السلام في اليمن، والحديث عن استعدادات إسرائيلية وأمريكية وبريطانية لتوجيه ضربات مدمرة ضد الحوثيين، فإن ما يدور وراء الأبواب المغلقة هو ما سيحدد مسار الأحداث في الأيام والأسابيع المقبلة.