مقالات

الراحلون إلى الخلود .. واليمن العالق بالبرزخ

07/04/2021, 17:46:45

كلما رحل اسم من الكبار ترتعش أوصال اليمن كلها، كأنها فقدت جزءا من تاريخها، جزء غير قابل للتعويض والتكرار، لا فقط كاسم ارتبط بتاريخ ومجال محدد، أو كمنجز شعري وثقافي وأدبي ومعرفي وعلمي بعينه. 

الوعاء كله مهدد بالتفكك، هذا يضاعف لوعة اليمنيين من فقدان رموزهم الكبيرة. 

صحيح أن أكثرهم قد اكتمل منجزهم ودورهم، ولكن الرحيل يذكر بمرحلة غير قابلة للتكرار، على الأقل بمنظور لحظة مظلمة تسود الآن وتغطي أفق اليمن كلها بالسواد. 

يرحل أعلام اليمن، واحد بعد الآخر.

يوسف محمد عبدالله، وقبله عبده عثمان، وعبده علي عثمان، ومطهر الإرياني، وأبوبكر سالم، وأحمد قاسم دماج، وعلي صالح عباد، وصالح سحلول. 

رحلت أسماء كبيرة في سنوات الحرب الست الماضية. بعضهم أساتذة كبار في دراسة التاريخ وعلم الآثار، وآخرون برزوا في علوم الفلسفة والأدب. شعراء ارتبطوا بتاريخ اليمن المعاصر مثل مطهر الإرياني، وهو شاعر ومؤرخ وارتبط اسمه بالفن عبر قصائده وملاحمه المغناة، مثل "البالة"  وارتبط بتيار الهوية اليمنية كمؤسس ورمز لكل ماله علاقة بالتاريخ اليمني والهوية اليمنية وثورة سبتمبر وجمهوريتها. كثيرون رحلوا لم يكن أحد يتمنى أن تقف حياتهم في هذه اللحظة تحديدا، لحظة المأساة اليمنية الأكبر في تاريخها المعاصر، وهي مأساة تنطوي على احتمالات قاسية قد تؤدي في سقفها الأسوأ إلى تفكيك اليمن بأسوأ صيغة يمكن أن تخطر على البال.  

أغلب هؤلاء الأعلام الراحلين كانوا في مرحلة من العمر، الموت فيها متوقع وليس مفاجيئا، غير أن ما يملؤنا بالحسرة هو أنهم رحلوا واليمن معلقة في البرزخ. 

ماتوا وأحلامهم، التي عاشوا من أجلها، تتداعى وتنهار. لم تودعهم اليمن، ولم تربت على أكتافهم ساعة الرحيل.

رحلوا واليمن معلقة بين الاجتياح الداخلي والاحتلال الخارجي (الإمامة والاستعمار)، لكأنها لعنة المصير الساخر؛ أن تعود البلاد إلى لحظة الصفر بعد مائة عام من كفاح مديد، وطريق شاق وقاسٍ وطويل للخروج من الدائرة المظلمة ذاتها.

الدائرة التي عادت دامية وعنيفة، وكأنها لم تأفل، ولم تذرها رياح التغيير بعد ستة عقود من الزمن، وما حفل به من خضات وتحولات. 

لطالما كان قانون هذه البلاد أن تنكر أبناءها المميزين من أفنوا أعمارهم لإضافة ما يفيد، وزرع ما يثمر. 

كان هذا مألوفًا قبل الحرب الأخيرة، وسرى على معظمهم، فنانين وأساتذة علم وعلماء تاريخ وآثار، وفي كل مجالات تعزيز الحياة ووجوهها الخلاقة. 

مع ذلك، فإن مرارة الرحيل، خلال سنوات الحرب الست الأخيرة، تفوق كل نكرانات سابقة ولاحقة.. أن تودع بلادك وقد تبددت أحلامك هباءاً منثورا.. أن ترحل وحطام كفاح جيل التأسيس يسد الأفق أمام ناظريك.  

نظرة سريعة في أسماء الراحلين في زمن الانكسار تترك أسى عميق، وتبعث تساؤلات محزنة، وبواعث يأس قاتم، لولا إيمانك بتغير الحياة، وممكنات الأمل الكامنة فيها، لوقعت فريسة سهلة لهذا اليأس الطالع من كل تفاصيل اللوحة الدامية، وخردوات التاريخ الطافية على سطحها. 

يوسف محمد عبدالله، مطهر الإرياني، عبده علي عثمان، علي صالح عباد "مقبل"، أحمد قاسم دماج ، فتح الأسودي، أبوبكر سالم، ... إلخ.. لا تحضرني كل الأسماء، فقط هذه بعضها. 

كل هؤلاء ارتبطوا بصورة اليمن الجديد، من مداخل متعددة، تجمعها ولادتهم تحت سقف اليمن الجديد، يمن ثورتي سبتمبر وأكتوبر، بجناحيه الشمالي والجنوبي، ولاحقا حصاد الثورتين في الوحدة اليمنية. يمن الجمهورية والثورة والأحزاب والتيارات السياسية والجامعات والبعثات والنقابات والتيارات والثقافة والأدب والصراعات، الصراعات التي -على مآسيها الكثيرة- كانت تخاض تحت سقف واحد، يقف تحته المصطرعون كلهم على اختلاف منطلقاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم.  

لا شيء يفوق هذه الدلالة الصادمة للرحيل، رحيل الروّاد من جيل الكبار وأبناء اليمن النجباء، في زمن التيه والشتات وانكسار الأحلام الكبيرة. 

كل جزء من الأشياء، التي طالها التداعي والانهيار في اليمن، كان قد أنجز لقاء ثمن باهظ من العذابات لأكثر من جيل. لم يدفع ثمن أرفع من ذاك الذي دفعه اليمنيون من أجل القليل القليل من الدولة وممكنات الحياة، والخروج من ظلمات القرون الوسطى والاحتلال والارتهان الكامل والمباشر للقوى الخارجية. وها هي تعود اليوم كلها دفعة واحدة، لتتساوى التحديات أمام الجيل الجديد في مفتتح القرن الواحد والعشرين بعد قرن كامل من الزمن!! 

وأنت تكتب، تحاول دوماً أن تجد الجانب المضيء والباعث على الأمل حتى في ظلمة السواد وانسداد الأفق، غير أن طريق الأمل أحيانا يمر عبر التحديق أولاً في قتامة الراهن ودلالاته الصادمة. 

أن تكتب ما تتمناه ويتمناه الجمهور، فأنت تُضَلِلْ نفسك وتُضَلِلْ الناس.  

تطربهم نعم .. ولكنك تكذب عليهم.  

الالتزام بمقتضيات التعبئة والتحشيد في الكتابة من قِبل الكاتب يفرغ كتابته من مضمونها المفترض ككاشف للواقع بجميع أبعاده. 

أما من يكتب خارجها، وفي مواجهتها، فهو ينطلق من قراءة الواقع بجميع أبعاده، من أجل تجاوزه.  

وهو هنا لا يتماثل مع من ينطلق من الواقع من أجل تثبيته وترسيخه. 

الإيمان بحلمك، قضيتك، مهم، والحماس من أجله أكثر أهمية، لكن طريقة الكاتب، التي يصب بها إيمانه وحماسة، هي في رفع مستوى نفاذيته للواقع والمعطيات القائمة والممكنات المتاحة واحتمالاتها وتشعباتها، وإضاءة الوجهة المناسبة والطريق الصحيح المفترض أن تسلك للوصول إلى الهدف، وليس التمني والردح في الخصوم وتضليل الناس وتغفيلهم عن معطيات الواقع المفترض أن يعرفوا كيف يغيرونها لصالحهم كمجتمع قادر على التماسك،  ولصالح بلدهم، كمتحد وطني يضمهم ويلم شتاتهم.  

الكتابة بالتمنيات تمتص حماس الناس وإيمانهم، وتثبت الإخفاقات، بدلا من أن تحشد حماسات الجمهور وإيمانه لتجاوزها..

هل هذا يأس؟ 

لا .. ليس كذلك.

إنه إقرار بفداحة السقوط الكبير الذي وقعت فيه اليمن عبر نخبها الخائنة. 

وكل إقرار بالواقع يتوخّى الانطلاق منه لتغييره وتجاوزه، وليس تثبيته وتأبيده، هو خطوة تعزز الأمل وتهزم اليأس. 

أن تقول الحقيقة، حتى وإن كانت صادمة، أفضل من إدعاء التفاؤل.  

التشاؤم الصادق المحتدم والمتوثب وغير اليائس أجمل وأجدى من الأمل الدعي وسرابه الخادع. 

احتدم حتى تخرج من الدائرة المغلقة ..

احتدام القوة الخلاقه، وليس هلع المنهار وارتياعه. 

سلام عليكم أيها الراحلون الكبار. كل واحد منكم كان سيرة حياة ملهمة، ولسوف تستمر متقدة داخل كل يمني يتطلع إلى الحياة بكرامة، ويحلم بالعيش الكريم في وطن يتسع لكل أبنائه، ويمنحهم الفرصة لإخراج طاقاتهم الخلاقة، ليكونوا شركاء في صناعة حياة لائقة بهم وببلدهم خارج مربعات الموت ودوائر الصراعات العدمية وأكلافها الباهظة والمدمرة.

مقالات

برفقة شوبنهاور.. حين يكون اليأس دافعًا أصيلًا للحياة

اليوم الثالث برفقة شوبنهاور، كان اسم هذا الفيلسوف في ذهني، يجلب معه إيقاع "الشوكة". يبدو كئيبًا ويعدك بالقنوط، ولهذا تأخرت في الإصغاء إليه. كنت بحاجة إلى التهيؤ له، ترقُّب تلك الحالة الذهنية الجسورة للاقتراب منه

مقالات

بيع الوطن بالتجزئة

أصبحنا، ونحن ننظر إلى الوطن اليوم، وكأننا ليس في وطننا بل في وطن يمتلكه مجموعة من الناس، الذين يحكمونه بالحديد والنار، ويمتلكون فيه كل شيء؛ من الهواء والطُّرق والسواحل والخطوط الطويلة بين المدن، وكأنهم يملكون الشروق والغروب والهواء والمطر.

مقالات

مقالة في الشعر

هنالك أشخاص يكتبون الشعر، وشعراء يحصلون على الجوائز، وشعراء يتم تكريسهم كأسماء رنانة، وشعراء يتم ترويجهم عبر أجندات وجماعات؛ كل ذلك لا علاقة له بالشعر. كثيرون بلا عدد يكتبون الشعر، لكن الشعراء نادرون.

مقالات

حكاية المُسَفِّلة غيوم عالم (2)

كانت المُسَفِّلَةُ غُيُوْمْ عَالم تدرك بأن عليها لكيما تضمن حرية التنقّل بين العالمين وتمارس مهنتها كمُسَفّلة أن تحتفظ بعذريتها فلا تتزوّج ولا تدع أحدا يقترب منها باسم الزواج، أو باسم الحب، ولأنها جميلة كان هناك من يحوم حولها ظنا منه بأنها، وإن كانت ترفض الزواج، لن ترفض الحب، وكان أولئك الذين خابت آمالهم في الزواج منها يأملون أن يصلوا إلى بغيتهم عن طريق الحب

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.