مقالات

"الزير سالم" لا زال حيّاً

26/12/2022, 18:13:22

هذا المقال استدعته إشاعة، ثبت زيفها. خبر رحيل الممثل السوري سلوم حداد أمس، الذي نفته وسائل الإعلام السورية، استدعى في ذهني ذكريات المسلسل الرائد "الزير سالم" وانطباعاتي عنه، والتأثير الهائل الذي تركه فينا مسلسل يرتقي إلى ذروة الإبداع في كل تفاصيله وأوجهه المتعددة.

على كُثرة الأخبار الزائفة، وبعضها يطال فنانين وممثلين بتواتر غريب، ربّما نجد في بعضها محفزاً للاحتفاء بهذا الفنان أو ذاك دونما حاجة لتأكيد خبر موته ومفارقته لضجيج حياة تأخذنا بعيداً عن إدراك ما قدّمه هؤلاء الفنانون، والاحتفاء بهم قبل رحيلهم.

استغرق الأمر سنوات طويلة لتثبيت اسم سلوم حداد في وعيي، باعتباره الاسم الحقيقي للمثل الذي قام بدور الزير سالم في المسلسل السوري الذي حمل نفس الاسم "أبو ليلى المهلهل - الزير سالم".  
هذه من الحالات التي يتوحّد فيها الممثل بالدور ويتماهى فيه، ولا يعود قادراً على الفكاك منه، وكأنّه ذاب فيه ولم يعد قادراً على لملمة شخصيّته بعد الخلاص منه.

أحمد زكي تحدث مرّة، في إحدى مقابلاته، عن المعاناة التي واجهها للخروج من جلباب شخصية الرئيس السادات بعد إنجازه للفيلم، حتى إن الأمر احتاج إلى عام كامل لاستعادة شخصيّته الحقيقية، والاستعداد للبدء في عمل سينمائي جديد.
مسلسل "الزير سالم" هو أفضل عمل درامي عربي على الإطلاق، ونقطة فاصلة ما بين مرحلتين للدراما العربية.

انطبع اسم الزير سالم على صورة الممثل السوري سلوم حداد في وعيي، كأنّ الدور هو الحقيقي، والحقيقي هو الدور المتغيّر.
كان  "الزير سالم" فاتحة فترة ذهبية للدراما التاريخية السورية، وواحدة من ذراها العالية، إن لم نقل إنها قمّتها. كل ما في هذا المسلسل اتسم بالجودة، من التتر الموسيقي في الافتتاحية بهمهماتها الملحمية، مروراً بالموسيقى التصويرية، والسيناريو المتميّز والشاسع المعرفة، الذي كتبه الشاعر السوري ممدوح عدوان، ومعه أداء رفيع لنخبة من نجوم الدراما السورية، في مقدمتهم سلوم حداد في دور الزير سالم، وصولاً إلى الإخراج المتميّز للمخرج حاتم علي. وحاتم علي، الذي رحل قبل أوانه، قصة فارقة في تاريخ الدراما والسينما العربية.

لم يكن مسلسل الزير سالم -على تميّزه واستثنائيته- سوى واحد من سلسلة أعمال سينمائية وتلفزيونية وضعت حاتم علي في موقع الريادة الفنية العربية التي بدأت مع الألفية الجديدة.
من أهم أعماله كمخرج إلى جانب الزير سالم: ثلاثية تاريخ الأندلس: صقر قريش، ربيع قرطبة، وملوك الطوائف. كذلك صلاح الدين الأيوبي، التغريبة الفلسطينية، ومسلسل عمر بن الخطاب، الملك فاروق، وعشرات الأعمال المتميّزة، بالإضافة إلى أدواره كممثل وكاتب، وروح متوثّبة التحمت بالهم العربي، وجسّدته بجودة فنية لم يسبقه إليها أحد، رغم وفاته المفاجأة وهو في ذروة عطائه الإبداعي الفني.

عودة للدراما في مصر، من الواضح أنها لم تكن تعرف هذا النوع من الإنتاج الضّخم للمسلسلات التاريخية الذي تميّزت به الدراما السورية التي وجدت في الخليج بيئة مالية داعمة لإنتاج مثل هذه الأعمال التاريخية، وهو عامل ساهم في نجاح هذه الدراما وحررها من شروط المركز المصري، ومن كوابحه الاستهلاكية، ولو مؤقتاً، قبل أن يجد كثيرون  أنفسهم مضطرين إلى الرضوخ جزئيا لهذه الشروط من أجل توسيع مساحة الحضور في ساحة الإنتاج الفني في مصر.

كانت مساهمة الدراما المصرية في "المسلسلات التاريخية" المنتجة، قبل الإزدهار الدرامي السوري، ضحلة وبدائية، واستمرت كذلك حتى اليوم. تميّزت الدراما المصرية بالمسلسلات الاجتماعية قبل الدراما التاريخية السورية وبعدها، غير أن سقفها الإبداعي الأعلى وصل ذروته في نهاية الثمانينات مع مسلسلي أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن ("ليالي الحلمية" و"بوابة الحلواني").

في غابة الدراما المصرية الشاسعة، لن تجد الكثير من نوعية "ليالي الحلمية" و"بوابة الحلواني" ذلك أن السِّمة العامة لإنتاجها هي معايير السوق الاستهلاكية، وهي معايير حددتها خفّة إنتاجية هبطت بسقف العمل الفني إلى قاع الإسفاف والتفاهة، وما ينتج بجودة معقولة يبرز كحالات استثنائية تثبت القاعدة ولا تنفيها.

مع التطوّر التدريجي في وسائل الاتصال والمعلوماتية، ومع اتساع مساحة اللا معنى، بدأت نوعية معيّنة من المسلسلات "الصناعية" الآلية تأخذ مساحتها من اهتمام الجماهير المستغرقة في الزحمة والدوران اللاهث لحياة تعج بكل شيء، وتفتقد كل شيء في آن واحد.

 بدأت هذه الموجة بالمسلسلات المكسيكية، ووصلت -في السنوات الأخيرة- إلى سكة المسلسلات التركية.
لم تكن الدراما السورية غائبة قبل فترة ازدهارها "التاريخية"، وواصلت حضورها في مسلسلات من نوعية "باب الحارة" في المرحلة اللاحقة لتألقها في المسلسلات التاريخية، وبالتوازي معها، لكن موجة صعودها توقفت بسبب حريق الحروب الأهلية التي تبعت ثورات الربيع العربي، وهي حروب ثورات مضادة طالت كل شيء في بلدان الربيع العربي، ومنها سوريا، وانعكست آثارها المدمّرة على مجتمع الفن والسينما والدراما التلفزيونية، مثلما التهمت نيرانها مدنا عربية، وقذفت بملايين من السكان إلى المنافي والشتات.

مع كل ما توالى على بلداننا من خضّات، تبقى الدراما السورية علامة فارقة في تاريخ الفن العربي.
روح منطلقة وذهن فائض القوّة، تحسهما وراء الدراما السورية، تلك التي شدّتنا في مسلسلات مثل: الزِير سالم، وثلاثية الأندلس، صلاح الدين الأيوبي، والحجاج بن يوسف الثقفي، وعشرات المسلسلات المتميّزة.  

لا تخطأ عيون المشاهد القوة في الأداء والحوار والتصوير والموسيقى، والكل الذي يبدو متكاملا ومكتملا وسِمة مميّزة لهذه الحقبة من الدراما السورية.
كنت أشاهد مسلسل الحجاج بن يوسف الثقفي حين قرأت خبر وفاة سلوم حداد، الذي اتضح عدم صحّته بعد نفيه من الإعلام السوري.

كان مشهد اللقاء الأول بين الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان والحجاج يكشف عن ذكاء فائق وإرادة عالية للحَجَّاج، الذي افتتح أول لقاء له بالخليفة بمقترحين: سكّ عملة عربية للدولة الأموية، بدلا من العملة الرومانية.

واستخدام السجلات العربية في الدواوين الإدارية، التي أعدّها هو بدلا من الفارسية، ومع متعة المشاهدة كُسِر المشهد بخبر الوفاة الكاذب، غير أن العرب تقول "رُب ضارة نافعة" فقد حفّزني خبر مزيّف كهذا لكتابة كهذه تحاول إلقاء نظرة على فترة درامية فارقة، تستحق الوقوف عندها واستقصاء أبعادها، دونما حاجة إلى فقدان أحد نجومها الكبار كسبب لهذا الاهتمام.

تماهى سلوم حداد بشخصيّة الزير سالم حتى ذاب فيها، ولم يجد ما يعكس شخصيّته أكثر منها، رغم أدواره الكثيرة والمتميّزة في العديد من الأعمال بعدها.
تماهٍ يشبه تماهي الزير سالم بشخصية عدوّه جساس بن مُرة، وكأنّه في حلقات المسلسل يلاحقه، وما أن يصل إليه، يدعه يذهب كي يستمر في ملاحقته، ذلك ألّا حياة للزير سالم من دون العدو، الذي يطارده.
 كانت نهاية جسّاس نهاية للزير سالم في الوقت نفسه، وإن اختلفت التفاصيل.

وربّما كان مسلسل "الزير سالم" نهاية مشابهة للممثل سلوم حداد.
 لا أعمال لاحقة لهذا المسلسل، على تميّزها، تصل إلى نفس السقف، وتقدّم إطاراً بإمكانه أن يحتوي شخصيّة سلوم حداد ويمنحه فرصة الذوبان في تفاصيلها وأبعادها.

الزير سالم، أو سلوم حداد، لا فرق، لا زال حيّاً بيننا وفي عالمنا، وهذا هو الأهم، أما الأهم منه، الذي سيبقى بعده، فهو أثره الفني الملحمي الخالد مسلسل "الزير سالم" أيقونة الدراما التاريخية السورية وسقفها الأعلى.

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.