مقالات
السعودية حين تهزم نفسها!
قبل 9 سنوات، وقف عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، في الأمم المتحدة، مخاطباً رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بلغة حازمة لا تقبل أنصاف الحلول: على الأسد الرحيل فقط عن السلطة بأحد خيارين؛ إما بالانتقال السلمي أو بالقوة العسكرية.
بالتزامن مع اللهجة الحادة حيال دمشق، كانت السعودية تخوض حرب "إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية إلى صنعاء"، كما هو العنوان الشهير للتدخل السعودي - الإماراتي المعلن، ولم يكن قد مر على المعركة سوى 6 أشهر.
وقتها كانت الرياض في أوج اندفاعتها لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وكانت بداية سطوع نجم محمد بن سلمان، وزمنه.
على أن حرب البلاغة السعودية ضد طهران بلغت أطواراً غير مسبوقة حين أطلقت الرياض لعبة فيديو تجسّد قوات سعودية تشن عملية عسكرية لاحتلال طهران، وتعتقل قاسم سليماني.
يظهر فيديو المحاكاة قائداً أوحد يدير تلك العملية هو الأمير الشاب محمد بن سلمان، وهو شخص مولع بألعاب الفيديو؛ كما قال في إحدى مقابلاته، وأٌطلقت اللعبة بعد أن صار الرجل الحاكم الفعلي للمملكة بعد الإطاحة بمنافسه الأمير محمد بن نايف.
في جانب آخر، ستهيمن تلك الصورة التي يتشاركها بن سلمان وحليفه رئيس الإمارات بن زايد، وهما يضعان سوارين لبطولة "فورمولا إي" على معصميهما، لسنوات عديدة لاحقة من الحرب، وهي الصورة الأكثر انتشاراً وتعبيراً عن الرفقة والشراكة والتحالف.
خلال هذه الفترة، ستتحول حرب التحالف في اليمن متعددة الأهداف إلى مضمار للتكامل والمنافسة في سباق موازي آخر، بين الصديقين اللدودين، من المخا غرباً إلى المهرة شرقاً، وسقطرى في المحيط الهندي جنوباً، وستثمر واحدة من أكثر النتائج كارثية على اليمن واليمنيين، وربما على السعودية بصفة أكبر، على المدى المتوسط.
كانت اللافتة حرباً ضد الانقلاب الحوثي، لكنها وزعت الجهد بصورة أكبر لتقويض الشرعية بعد مساندتها في الجولة الأولى، ثم خلق "شرعيات" جديدة تتيح للرجلين التصرف بأريحية، وإعادة هندسة النفوذ في المناطق التي جرى استعادتها من مليشيا الحوثي.
في الجزء الذي شاهدناه ظاهراً، كانت أبوظبي تأخذ الرياض بعيداً عن الأهداف المعلنة، أو أنها أخذت الحرب معها إلى زوايا ومناطق الجزء الأكبر، والأهم منها كان يقوض "الشرعية"، التي زعم التحالف المجيء لمساندتها، وهو أمر بالتأكيد كان يصب في مصلحة الحوثي، ومن خلفه إيران.
لمسنا حصيلة هذه السياسة في مظاهر الضعف الذي اعترى الشرعية، وفي القوة التي حازها الحوثي خلال فترة الحرب، ثم التحول النوعي في القدرة على استهداف مناطق سعودية حيوية كالمنشآت النفطية الإستراتيجية والمطارات بالمسيّرات والصورايخ البالستية.
هذا المآل أظهر بشكل واضح الاندفاع الإيراني لكسب الحرب، وترسيخ نفوذ طهران، وتهديد الجوار، وخلخلته بتقديم دعم لا محدود لحليفه في صنعاء، وقد ظهر الحصاد الإيراني سريعاُ في مناوشات مليشيا الحوثي على البحر الأحمر، وتهديد مضيق باب المندب وخليج عدن، وامتلاك ورقة تفاوض كبرى في مختلف الملفات الإقليمية.
لقد ثبت أن نهج الإمارات، خلال سنوات الحرب، كان مضراً بالنظر إلى النتائج التي رتبها سلوك أبوظبي في تبديد معركة اليمنيين وتشتيت أهدافهم، لكن هذا يحيل إلى سؤال ضروري: هل كانت الرياض غافلة عن سياسة أبوظبي التي تتحرك في ما يفترض أنه جزء من أمنها القومي، أم انها تماهت معها وأرادت أكل الثوم بفم حليفتها؟
أياً تكن الإجابة، فالماثل أمامنا اليوم أن حصيلة الحرب في اليمن لم تصب في مصلحة اليمنيين كشعب، وأبرزت الرياض أكثر ضعفاً، ليس في اليمن بل في مختلف ملفات المنطقة.
وبعيداً عن الصيغة الدبلوماسية، التي بررت التدخل السعودي في حرب اليمن باعتباره طلباً من الرئيس الشرعي "لإنهاء الإنقلاب"، فالمؤكد أن عاصفة السعودية جاءت بدوافع أمنية وعسكرية محضة تخص الرياض لا أكثر.
اليوم، بينما تبدو الرياض في حالة هرولة للخروج من الحرب، يتبجح الحوثي أكثر مما كان عليه، وقد استفاد من سياسة التحالف، وضعف الشرعية طيلة سنوات القتال.
هو لا يستعرض قواته في مناورات، ولا يهدد في تصريح صحفي لصحيفة عربية عبر شخص مجهول كما حدث في 2014.
بخبرة 9 سنوات، وبصريح العبارة، يشن زعيم المليشيا هجوماً حاداً على الرياض متوعداً بحرب لا توفر هدفاً، أما قيادات الصف الأول في الجماعة فلا يكفون عن توجيه الدعوة للشعب السعودي "إلى حمل السلاح" ضد النظام.
هذا التطور الخطير في خطاب مليشيا، سمحت لها الحرب بأن تكون ملهمة لأقليات طائفية في الخليج، يجب عدم التقليل من شأنه في إطار المشروع الطائفي الكلي في المنطقة، الذي لا يبدو أنه سيستثني أحداً.
لقد التزمت الرياض الصمت حيال تهديدات الحوثي، وتلح في المقابل على توقيع خارطة الحل التي اقترحتها بالتفاوض المباشر مع المليشيا، وقد سبقتها تهديدات مليشيات عراقية شيعية تورطت في هجمات ضد السعودية، وكأن مهابة الدولة ذات الثقل الاقتصادي الضخم، والتأثير الديني كمركز روحي للمسلمين في العالم، تبدو في أسوأ حالاتها.
يمكن قراءة هذا التراجع السعودي من خلال الملفات التي انخرطت فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
بعد استثمار طويل في لبنان، خرجت السعودية من هناك خالية الوفاض، لتؤول الأمور لمصلحة إيران، ويبدو أن مشهد سعد الحريري، وهو في "عهدة" الرياض، يشرح طبيعة النهج السعودي الذي ألحق بها خسائر جسيمة في ملفات عديدة.
أما في سوريا، فقد ذهبت تهديدات عادل الجبير "مع الريح"، واضطرت الرياض لإعادة علاقتها بالنظام الذي تديره طهران، والشروع في برنامج تأهيل قد يجعلها شريكاً في إعمار ما دمرته إيران نفسها!
وفي العراق، باءت كل محاولات الرياض لاحتواء المليشيات الإيرانية بالفشل، وتحول الجهد السعودي ببساطة إلى مكاسب إيرانية لتسمين مليشياتها!
تدرك إيران طبيعة الإبتزاز الأمريكي والغربي للرياض وإدمان الأخيرة مظلات الحماية، وهي البلد العربي الكبير الذي يستطيع أن يكون قائداً فعلياً لأمة تتجاوز المليار والنصف، لذلك كانت طهران تكسب كل معاركها، وتكسب أكثر من هزيمة الرياض لنفسها!
ما هو مؤكد أن موقف السعودية، التي كانت فاعلاً إقليمياً كبيراً في المنطقة له كلمة في كل ملف، يتراجع. بالإضافة إلى إظهار عجزها الدفاع عن نفسها أمام مليشيات، فقد كانت على الدوام بلا إستراتيجية واضحة للتعامل مع مختلف الملفات، مرتبكة، وتتخبط، وهو ما يجعلها لقمة سائغة وعرضة لابتزاز أكبر إقليمي ودولي، ولحلفائها وأعدائها على السواء.
ما يبدو يقيناً أن رأس السعودية مطلوب، وأن تقسيمها أكثر من جائزة لأطراف عديدة، وهو أمر يهدد بلا شك كل بلدان المنطقة. والتهديد ليس من إيران وحدها، التي تحاول إزاحة الحرائق عن حدودها بمسافة 2000 كيلو متر على حد تصريح قائد عسكري إيراني كبير قبل سنوات، بل من دول تسعى الرياض للحصول على حمايتها!
ربما كان يتوجب على الرياض أن تقلق منذ وقت مبكر بشأن مخططات استهدافها وتقسيمها.
في يونيو عام 2006، نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية دراسة "حدود الدم"، للجنرال الجمهوري المحافظ رالف بيترزوهي، تقترح تقسيم السعودية ودول عربية أخرى، لتصحيح "أخطاء سايكس بيكو"، و"إنصاف الأقليات".
يوحي العنوان بالحروب الأهلية ذات العنوان الطائفي كمقدمة للتقسيم.
وحين نشرت صحيفة نيويورك تايمزةعام 2013 خريطة تقترح تقسيم السعودية إلى خمس دول، كان على النظام السعودي أن يستنفر جدياً لمواجهة تحدٍ كانت ملامحه تتشكل في الجوار.
بالتأكيد، فإن ما ينشر لا يعني أنه سيتحقق، لكنه يعطينا على الأقل لمحة عن ما تفكر به دوائر القرار والتأثير في الغرب، فكيف الحال إذا كانت تتبناه دوريات خاصة بالجيوش، ونرى معطياته على الأرض يومياً، إن لم يكن في بلدك فهو يحدث في جارك!
لقد راقبت الرياض الصراعات وهي تحيط بها بينما تقوَّض الدول وتنتفش المليشيات الطائفية. راقبت عبث إيران في لبنان ثم العراق وسوريا، وحين أُتيح لها قطع يد إيران في خاصرتها الجنوبية، هزمت نفسها، وهزمت معها اليمن الدولة، والشعب والقضية.
لا أبرئ هنا ساحة اليمنيين من تقديم بلدهم قرباناً للغرباء. الغرباء جميعاً، عجماً وعرباً!