مقالات

السفر عبْر الكُتب

15/05/2024, 07:32:43

يسألك أحدهم: ماذا استفدت من القراءة؟ السائل هنا محكوم بوعيه ل«الفائدة»، يراها مجدية عندما تمنحك وظيفة جيدة، وضعا ماديا، شيئا ما في قائمة دارجة لا علاقة لها بالكتب.

وربما كان على كل قارئ أن يدرك ذلك، أن القراءة ليست مهمة؛ لأنها "مفيدة!" بالمعنى السائد.
يقول يوجين يونيسكو إن المرء لن يستطيع أن يفهم الفن إذا لم يفهم فائدة "العديم الفائدة"، وعدم فائدة المفيد.
هذا القول يضع مسافة مع مفهوم "الفائدة" السائد في مجتمعات تطغى فيها القيم المادية.


الكُتب، مثل الموسيقى، مهمة لأنها تمنحك القدرة على تجاوز نفسك. تمنحك إمكانية للوجود أبعد من واقع يحددك ويضع لك سقف حركتك وتفكيرك. تمنحك القدرة على تجاوز شروطك.
تقرأ لاستكشاف عوالم جديدة تتجاوز قيودك. تقرأ لكي تستوعب تجارب الآخرين، وتكتسب القوة وتكتشف مكامن عميقة في ذاتك، وتتعلم الصبر والتعاطف. تقرأ بدافع العطش للمعرفة.

عندما ترِد مفردة "القراءة" فالمقصود بها عندي، أولاً، القراءة المغذية للروح، الكُتب المُلهمة، الكُتب النادرة التي تلامس أعماقك المجهولة.

أقرأ لأن القراءة جزء مني، جزء من روحي. أنا أقرأ؛ لأنني، ببساطة، لا أستطيع أن أتخيل الحياة بدون كُتُب.
أنا لا أقرأ فقط لاستكشاف الأشياء، وإثراء معرفتي، بل أقرأ لأن القراءة مرآة لذاتي وجزء من وجودي.

أنا من الناس الذين يجدون العلاج في الكتب. الكتب عالجتني. استخدمت العلاج بالمعرفة في أكثر سنوات حياتي قسوة وإنسدادا في أفق الوجود والتحقق الذاتي.
جنّبتني القراءة سنوات كانت الحياة فيها حالكة، قاسية إلى حد الهلاك.

الكتب المُلهِمة نادرة. وعندما تصل لواحد منها تشعر بالندم على قراءة عشرين كتابا قبله. الكتب المغذية للروح هي ما أقصده هنا. كتب تجدها في الشعر، الأدب، كتب فلسفية، تأملات وجودية، وكل ما يلامس أعماق الذات.

يلخص غاري بولسن -بشكل جميل- جوهر القراءة باعتبارها رحلة تحويلية، رحلة التعلم والنمو والتواصل. تصبح القراءة ملاذًا حيث يجد المرء العزاء والقوة والإلهام، بغض النظر عن الحالة المزاجية التي يمر بها.

من خلال صفحات الكتاب، لا يكتشف المرء عوالم جديدة فحسب، بل يكتشف أيضًا أعماق روحه، حيث تبث الكلمات الحياة في الأفكار، والمشاعر المخبأة بداخلها. يصبح كل كتاب رفيقًا عزيزًا، يعيد ترتيبك، ويمنحك الانسجام والأمل.

في عالم الأدب، يجد المرء إمكانيات لا نهاية لها للاستكشاف والرفقة، مما يجعل كل كتاب ليس مجرد مصدر للمعرفة، بل صديقًا مدى الحياة.

الكتب هي عوالم جديدة تسكنها شخصيات تُمنح الحياة من خلال القراءة ذاتها.
أجد نفسي، مرارا وتكرارا، في صفحات كتاب جيد.
من الناحية الإنسانية، لا يوجد معلم أعظم، ولا معالج أعظم، ولا علاج للروح أعظم، من مجموعة كُتب تلامسك، وتغدو مفاتيحك لفهم ذاتك والحياة من حولك.

أقرأ لأصادق شخصيات وأعيش معها، أتنفس هواءها، أشاركها آلامها وأفراحها، كما أقرأ لأهرب من الأصدقاء المزيَّفين وخياناتهم.
الكتب هي أكثر الأصدقاء وفاءً وأكثرهم قدرة على فهمنا واستيعاب شغفنا، قلقنا ومخاوفنا، وتساؤلاتنا.
وفي هذا المعنى، قال أبو الطيب المتنبي:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ .. وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ

- الكُتُب كاشفة عن الحياة، لا بديلاً عنها

كل ما يُقال عن أهمية الكُتب والقراءة لا يلغي حقيقة أنها ليست بديلاً عن الحياة.
من يقيم في "النص" ينقطع عن دفق الحياة، يتحول كائنا "مفاهيمياً"، يغرق في أحابيل اللغة، ويسجن نفسه في زيف دوائرها اللا نهائية.
كل ما تحتوية الكُتب ليس سوى قطرة من بحر الحياة، هي تساعدك فحسب على فهم ذاتك، وقراءة كتاب لا نهاية له؛ كتاب الحياة.

لن تجد في الكُتب سوى ما هو موجود داخلك. نحن عادةً نتعلم الأشياء التي يمكننا الوصول إليها بالفعل. نكتشف في الكتب ترجمات لتجاربنا وأحاسيسنا، تلك التي لا نتمكن من الوصول إليها بسهولة.
لن تجد في الكتب شيئاً ليس له وجود في ذاتك.
نحن بحاجة إلى أداة مضيئة؛ مفتاح من الكلمات لالتقاط المعرفة المشفرة في أعماقنا، وخبرتنا بالحياة.
أقرأ لأفهم أشياء عرفتها في الحياة، أقرأ عندما أكون متعبًا، كما أقرأ عندما أكون متعافياً، أقرأ عندما أشعر بالانكسار والإحباط والخوف، مثلما أقرأ عندما تخفق روحي بالفرح.
عندما أكون غاضبًا أقرأ لأستعيد رباطة جأشي، وفهم ما يحدث. وعندما أشعر باليأس أقرأ لأجد الأمل، عندما أكون متوائماً، أقرأ لأصل إلى مستوى التماهي مع الكون.

في البدايات، كنت أقرأ لأسباب عديدة، والآن أقرأ لأبقي ذهني يقظًا، مجرد قراءة على مهل، كأنّك ترتشف مشروب حكمة الحياة المُعد من خلاصة تجارب المتفردين.

القراءة مهمة وضرورية، لكن إحصاء عدد الكتب، التي قرأتها خلال العام أمام الملأ، أو نشر صورة كومة كتب أشتريتها من معرض للكتاب؛ يقول لنا إنك لم تقرأ شيئاً، ولن تقرأ شيئاً، وإن مررت على الكثير من الورق والمجلدات.
ربما تكون الإشارة إلى كتابين أو ثلاثة أدهشتك ووجدت فيها ما تبحث عنه مُناسِبةً، لكن نشر القوائم المطوّلة فيه استعراض يليق بمكتبة تعرض الكتب وليس بقارئ لها.
الأرقام لا معنى لها في مجال القراءة؛ ليس من يقرأ أكثر هو الأكثر معرفة وحكمة.

وفي لحظة ما، ينبغي عليك أن تتجاوز «المعلمين» لتكون معلم نفسك. المعرفة الحقة تعلمك التفكير، أن تكون ذاتك لا شيئاً آخر سواها.
في لحظة ما، نتجاوز الكُتب إلى عالم أوسع منها، وأكثر تعقيداً وغموضاً؛ الذات، والحياة المباشرة.
يقول هرمان هيسه:
"لقد كنت وما زلت باحثاً، لكنني توقفت عن سؤال النجوم والكتب، بدأت أستمع إلى ما تقوله لي نبضات دمي".

- آلة الإغراق الحديثة

إرث المعرفة لا يكتسب قيمته من تاريخ الإنتاج. هذا المقياس لا مكان له في عالم المعني؛ المعرفة والفن والموسيقى. ليس الأحدث هو، بالضرورة، الأعمق.

لا يحتار المرء كثيرا في اختيار ما يقرأه من الكلاسيكيات القديمة في الأدب والفلسفة والفكر وحقول المعرفة المتنوعة، أو الأكثر قدماً، التي كتبت عبر تاريخ البشرية.

الحيرة والإرتباك تبدأ في اختيار ما تقرأه في عصر المعلومات والتطورات المتسارعة في وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة.

- لمن نقرأ اليوم؟!

كيف نختار ما نحتاجه من بين ما تنتجه مضخة إنتاج ضخمة تقذف بمئات الكتب يومياً إلى سوق تداول، معاييرها رقمية؛ الأكثر مبيعاً، والعدد الأكبر للنسخ المطبوعة، وقوائم الترشح للجوائز، والاستعراضات في الصحف اليومية، والمعايير السائدة التي تهتم ب"موضوعات محددة"، وتتجاهل ما عداها.
كيف نفرز وننتقي من وسط سيل لا مجال للإلمام بأطرافه؟
كيف نثق بالآلة الدعائية العالمية الترويجية للرواية والأدب، وكل آلة ترويج خاضعة للربح، وتحكمها قيم المنفعة والتسويق والإبهار، وصناعة الكتاب فيها، لم تنجُ من ذلك كله.

هل "نوبل" معيارا كافياً لقيمة الأدب، والحكم بأفضليته في الإبداع والخلق الفني؟
هل «العالمية» معيار لقيمة الرواية وأهميتها، أم أن ذلك، فحسب، تعبير عن توجهات عالمية مؤثرة تفرض «قائمة موضوعات محددة» يضعها الروائي في رأسه، بديلاً لذاته واهتماماته الحقيقية وخياله؟
في أي زوايا منسية من هذا العالم تُكتب الروايات الفارقة؟ هل تُطبع وتوزّع أم تنتظر خمود الفقاقيع السائدة، وتتسرّب إلى زوايا مخفية، بانتظار من يأتي للبحث عنها واكتشافها في أزمنة لاحقة؟!
هل يصلنا شيء من هذا الجديد؟ وهل ثمة زوايا وأعماق إنسانية لم تكتشف بعد تعدنا بها الروايات، التي لم تُكتب بعد، أم أن كل شيء قد قِيل، ولا شيء سوى التكرار من واقع تجارب وزوايا متعددة؟

- أسئلة لا حصر لها

الروايات أكثر من أن تُحصى، لكن ما يستحق القراءة أشبه بمجموعة حصى بين كومة قش.
والصدفة هي قانون القوانين، الذي لم تفكْ شفرته بعد. امتلأ فقط بما تريد أن تقرأه، وستجده أمامك. موجة ما، أو عناية غامضة ستجلبه إليك، دون أن تعرف كيف ومتى.
الصدفة هي التي تضع أمامك الكتاب، أو الرواية الأهم، التي ستغيّر حياتك؛ تجدها في رصيف عابر، أو في إهداء غير مخطط له من صديق. تجدها ك«توصية» من صديق لآخر في تعليقات عابرة داخل صفحة تواصل مجهولة، كما تجد عنوانها في مقالة كاتب يعبّر عن شغفه بحميمية كأنّه يخاطب نفسه.

إقرأ ما تريد أن تراه مكتوبا، أولا في كتاب "الحياة" الكبير، وستجد بعدها تنويعات لا حصر لها في بطون الكتب، تقفز مندهشا كلما مريت على سطورها؛ هذا ما أردت قوله، إنه ما قرأته في الكتاب الكبير للحياة.

هل تفقد البشرية المعنى كلما زادت معارفها وتطوراتها التقنية؟

أرى أن العالم يمضي فعلاً باتجاه فقدان الإحساس بالمعنى.
إن هذه الرقميات "أداة إلهاء" مصممة خصيصًا لإبعاد تواصلنا البشري عن نطاق التركيز بشكل لا رجعة فيه؛ لفصلنا كأفراد وفي الوقت نفسه تجميعنا في كتلة عامة سهلة ومطواعة يمكن التحكّم فيها بالعقل وقيادتها مباشرة إلى عبودية "النّخبة" التي تتحكّم في المحتوى.

وكلما تأملت في هذا التناقض بين «التطور» و«فقدان المعنى»، يسرح بي الخيال إلى أزمنة المعلّمين الكبار، فأقول إن من الجيد أن "تطوّر" البشرية إلى زمن الرقميات؛ الموبايلات، وسائل التواصل، الذكاء الاصطناعي، قد تأخر.
لو أنها وصلت إلى هذا قبل ألفين وخمسمئة عام لن تعرف شيئا من تاريخها الذهبي في الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ، وبقية حقول المعرفة. تخيلوا أرسطو وهيروقليطس والمتنبي وابن سيناء وأبو حيان التوحيدي ونيتشه وبرجسون، يفسبكوا، وبجانب الواحد منهم موبايلان يَرد من خلالهما على المتصلِين، ويدخل "واتس"، وذهنه مشتت بين التطبيقات والفضائيات والقنوات والمهاترات، وسيلان المنشورات…..الخ، ماذا سيكتب؟
بالتأكيد، يوجد اليوم آلاف مؤلفة من الكُتاب تدبج آلافا مؤلفة من الكتب، ولكنها كُتب في مدار آخر غير المدار الكوني الرَّحب الذي يقع فيه مؤلفون مثل برجسون ونيتشه ومن يماثلهم بهذا القدر أو ذاك في الأزمنة الماضية.

قراءة الكتب في زمن كهذا، تتخاطف البشر فيه كل هذه الرقميات والضخ اليومي عبرها، تمر بأصعب فتراتها.
في أزمنة شحة الكتب كانت «ندرتها» هي الحاجز الذي منع الكثيرين من المعرفة، وحصرها في «أقليات» نخبوية. وفي زمن التطور التقني والمعلوماتي، يبدو أن «وفرة» الكتب تنذر بإعادة الحاجز بين الناس والمعرفة، وهذه المرة بواسطة "الوفرة" لا عبر "النُدرة".

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.