مقالات
"العود والرَّباب" لمناكفة الاستبداد وحماية التنوّع
لا شيء يفوق الفن اليمني في قدرته على تقديم اليمن بتنوعها، وتراثها وثقافتها، وثراء وتنوع النّغمات المنبعثة من تجارب ناسها وأحاسيسهم.
خلافاً لإرث الصراعات السياسية الانقسامية، قدّم الفن اليمني نموذجاً للتنوع القادر على التعايش والنمو.
هذه سمة أساسية في الفن، وفي اليمن أضيفت ميزة نادرة لتنوع خلاق لم ينلْ الاهتمام الكافي لدراسته وتوثيقه والاحتفاء به من قِبل الدارسين والنّقاد والمؤسسات والمراكز الثقافية.
ألوان الفن اليمني والثيمات الأساسية لألحانه قديمة، وإن لم تكن تؤلَف عن دراية بالنوتة أو عن دراسة للتلحين.
معظم الألحان الأساسية ألّفها فنانون استندوا فقط على مواهبهم، وتراث اليمن الفني كله شكّلته أحاسيس الناس وأهازيجهم، مواويلهم ومهاجلهم في الحقول والوديان والجبال والسواحل، ونقله روّاد الفن الأوائل بتلقائية دون دراسة التلحين بالنوتة. أغلب الفنانين اليمنيين لم يتعلموا النوتة مثل: فضل اللحجي، ومحمد سعد، وكذلك فناني الأغاني الصنعانية.
كانت الثورة والجمهورية هما رافعة الفن في الستينات والسبعينات. لقد نقلت نبض اليمنيين في الحقول والوديان والجبال والسواحل والسهول الى مدى أوسع انتشارا، وبصيغة فنيّة واكبت زمنها وأعادت خلق الألحان القديمة، وأضافت عليها وطوّرتها، وابتكرت ألحاناً وأناشيد جديدة متكِئة على روح جديدة، استنهضت إحساس اليمني وتوْقه للحياة، وطموحاته للتعبير عن نفسه بالفنّ، كما في السياسة والثقافة والفكر.
كانت الستينات والسبعينات فترة اتقاد اليمن في الفنّ، كما في غيره من المجالات، قبل أن تداهمها السلفية الوهابية وتيار الإخوان آواخر السبعينات.
تحريم الفن هذه الأيام من قِبل الوجه الآخر للإسلام السياسي، في ظل اللادولة، ليس جديداً، الصادم فيه أنه يعيد فتح معارك تجاوزها الزمن.
استعراض تاريخ تحريم الفن في اليمن سيقودنا إلى محطتين رئيسيتين، إحداهما ترافقت مع صعود السلفية الوهابية والإخوان أواخر السبعينات، ووصلت ذروتها خلال عقدي الثمانينات والتسعينات.
والثانية أقدم منها، وتعود إلى فترة حكم الإمامة في شمال اليمن، وتحديدا في عقدي الثلاثينات والأربعينات.
في كتاب توثيقي بعنوان "مهرحان القمندان"، الذي وثّق لمهرجان عُقد في مدينة 'الحوطة' في محافظة 'لحج'، قبل الوحدة بعامين (تحديدا في نوفمبر 1988)، تناولت مداخلة الشاعر الغنائي الكبير والمتميّز محمد سعيد جرادة، كتيباً أصدره الأمير الشاعر أحمد فضل القمندان في الأربعينات، بعنوان "فصل الخطاب في إباحة العود والرباب".
وسبقت هذا الكتاب مقالات نُشرت في صحيفة "فتاة الجزيرة "، حول " فن السماع"، وهل هو حِل في التشريع الإسلامي أم محرم.
صدور كتاب يعالج موضوع إباحة أو تحريم الغناء في تلك الفترة ليس بالأمر الغريب. يفسّر محمد سعيد جرادة ذلك بالمناخ السائد آنذاك، فقد كان التحريم سائداً في الشمال المحكوم من قِبل الإمامة، والذين عايشوا فترة الأربعينات يعرفون الإجراءات المشددة في سبيل منع انتشار الغناء، حيث كانت جلسات الغناء تتداول بشكل سري جداً، وكان العود الخشبي الصنعاني القديم يُحمل مجزءاً إلى أكثر من قطعتين.
كان الحال في عدن مختلفاً، وإن لم يخلُ من بعض فقهاء يحرّمون الفن، مثل عبدالمجيد الأصنج والد السياسي المعروف عبدالله الأصنج.
وضع عدن المنفتح مقارنة بالشمال جعلها قُبلة لمجموعة من فناني صنعاء وكوكبان وغيرهما من مناطق الشمال، وبسبب تحريم الإمامة الفنّ وتضييقها على الفنانين رحل إلى عدن الكثيرون منهم، أمثال العطاب، وغيره من أساتذة الغناء، حيث تتلمذ على أيدي هؤلاء الأساتذة كوكبة من الفنانين الذين طوّروا فن الغناء الصنعاني، أمثال الأخوين الجراش علي وأحمد، ومحمد عبدالقادر مكاوي، وعلي أبوبكر باشراحيل، وعوض عبدالله المسلمي، وسعد عبدالله اللحجي.
يضيف جرادة، مفسراً بواعث تأليف القمندان لهذا الكتاب، أن عدن لم تكن بحاجة إلى كتاب يدافع عن الموسيقى، ويذهب إلى الرأي الشرعي في إباحتها، فقد كانت الموسيقى في عدن -في تلك الفترة- منتشرة، والأغاني تسجّل في اسطواناتها المعروفة، وإنما كان الباعث للقمندان على إصدار كتيّبه ذاك مناكفة حكام صنعاء الذين كانوا يحرّمون الغناء علناً، ويستمعون إليه سراً في مجالسهم، التي كان يحضرها عدد من الفنانين القدماء الذين يحسنون الضرب على العود، بالإضافة إلى النشّادين الذين كانوا يغنّون غناءً غير مصحوب بالعزف.
وكان القمندان، بحسب جرادة، على خصومة قويّة مع حكام صنعاء، ولا يترك مناسبة دون أن يمسّهم بالهجوم الذي يصل أحياناً إلى حدّ اللذع والقذع. وكان كتيّب "فصل الخطاب في إباحة العود والرباب" جزءاً من الحملات الموجّهة إلى النظام الإمامي في الشمال.
على أن الردود على الكتيّب لم تأتِ من صنعاء، وإنّما من بعض الفقهاء السلفيين في عدن، أحد هذه الكتيّبات موقّع باسم الشيخ الهندي، وهو -كما يوضّح جرادة- اسم مستعار اتخذه الشيخ علي محمد باحميش.
فسَّر الشاعر محمد سعيد جرادة صدور هذا الكتيّب، وغيره من الردود من عدن، أنه جاء بإيعاز من الإمامة.
والأقرب برأيي هو وجود بذور تيار سلفي في عدن، لم يتمكّن لاحقاً من التمدد بفعل صعود التيارات الوطنية السياسية والثقافية في عدن الخمسينات والستينات، وقيام النظام في عدن بعد الاستقلال بثقافته المتحررة من قيود الثقافة السلفية التقليدية ومحرماتها.
الموجة الأكبر لتحريم الغناء بدأت أواخر السبعينات. حينها كان 'الإخوان المسلمون' وتيارهم السلفي الوهابي هم الحليف الأساسي لنظام صالح، وهو تحالف قام على روابط متواشجة بين هذا التيار والبِنية القبلية العصبوية التي شكّلت البِنية التحتية للنظام.
سلّمت المناهج والفضاء العام كله للإخوان.
وفِي الجوامع والمدارس والمؤسسات سادت نظرة معادية للفن والغناء والمرأة.
كانت الفِرق الفنية المؤلّفة من فنانين وعازفين ومؤدين من الشباب والشابات منتشرة في اليمن شماله وجنوبه. ومنذ بداية الثمانينات بدأت الرقعة الظلامية تتسع، وبالتدريج تحوّلت مظاهر الانفتاح الفني المحدودة إلى بُؤر صغيرة معزولة.
في نهاية الثمانينات، كانت الفِرق الفنية قد انتهت في شمال اليمن، وجاءت بعد ذلك حرب 94 لتنهي ما تبقى، وإن بقيت مظاهر رسمية تستخدم بعض الأداءات الفنية للترويج السياسي.
ونظام صالح وإن لم يكن متبنياً للفكر السلفي المتطرّف إلا أنه تحالف معه، واتخذه أداة له.
وعندما أنهى تحالفه معه نهاية التسعينات كان ذلك قطعاً مع التيار السياسي داخل 'الإصلاح' لا مع التيار السلفي داخله وخارجه.
لقد استمر يدعم 'جامعة الإيمان' و'سلفيي الإصلاح' كما استمر في رعاية السلفيين خارجه.
في عام 2010، أقامت شركة 'واي' حفلتين فنيتين في صنعاء وعدن، دعت إليهما الفنان راغب علامة إلى صنعاء والفنانة أصالة إلى عدن.
قامت الدُّنيا ولم تقعد في الجوامع، تحريضاً على حفلين فنيين يتيمين محتشمين، ولولا حب راغب علامة وأصالة نصري لليمن لما قررا المجيء بعد حملة التحريض ضدهما، وفِي أجواء عُرفت فيها اليمن في الخارج بأنها أحد أكثر الأماكن في العالم خطراً، بسبب التنظيمات الإرهابية.
على كل حال، كانت التيارات السلفية الدِّينية المتطرّفة دوماً، بوجهيها، غطاءً للمصالح السياسية والصراع السياسي، سواءً خاضته لحسابها أو لحساب الأنظمة المستبدة وتحالفاتها معها.
في السعودية، بقي علماء الوهابية أكثر من نصف قرن يُحرّمون قيادة المرأة للسيارة، ويسردون الآيات والأحاديث، ويلوون أعناقها لخدمة الإرادة السياسية، التي قررت أن المرأة لا ينبغي لها أن تقود السيارة. وبعد أن قرر محمد بن سلمان أن قيادة المرأة السعودية للسيارة إجراءٌ يخدمه أمام الغرب لتسويق ولايته للعهد، خرج علماء السعودية يفتون بإباحة قيادة المرأة للسيارة، ويسردون الآيات والأحاديث المؤيدة لقرار ولي العهد السعودي.
تذكرنا هذه بتلك. الأستاذ أحمد حسين المروني -رحمه الله- ذكر واقعة حدثت له أثناء رئاسته لإذاعة صنعاء، منتصف الخمسينات من القرن الماضي. حينها، وبعد قيام الإذاعة ببث بعض الأغاني لأول مرّة، خطبت الجوامع -يوم الجمعة- محرّضة على هذه "الفِعلة النكراء"، وخرجت مجاميع من الغاضبين باتجاه الإذاعة ترجمها بالحجارة وتحاصرها. يقول المروني إنه تسلل هارباً من داخل الإذاعة، واتجه إلى بيت المفتي، وهناك انتظره بجانب بيته حتى رآه عائداً، فأوقفه، وسلّم عليه، وشرح له ما حصل، قائلاً: "نشتي منكم يا مولانا تساعدونا نهدِّئ الناس المُحرضين ضدنا، بفتوى صغيرة تقولوا فيها أن الأغاني مباحة، وسنقوم ببثها في الإذاعة".
رد عليه المفتي قائلاً:
سيروا لا عند "هُم" - يقصد الإمام - فإذا قالوا "هُم" أن الأغاني مباحة، جي لا عندي وأنا أكتب لك فتوى وفيها عشرين آية وعشرين حديثا إنها مباحة. وإذا قالوا "هُم" إنها حرام، جي لا عندي وأنا أصدر فتوى وفيها عشرين آية وعشرين حديثا إنها حرام.
تعليقاً على هذه التقلّبات في الفتاوى، التي تدُور مع الحاكم أينما دار، علّق أحد الأصدقاء في إحدى ليالي رمضان أثناء مشاهدتنا لحلقة من حلقات "رامز عقله طار"، التي صوّرت بدعم وإشراف من "هيئة الترفية" السعودية، قائلاً: يبدو أن العاملين في هذه الهيئة هم نفسهم المطاوعة اللي كانوا يعملون في "هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر"، بعد ما حلق لهم ولي العهد محمد بن سلمان هيئتهم السابقة.... ودقونهم!