مقالات

المساح المؤزر بأصالته

21/04/2024, 08:41:06

هذا الرجل كتاب من لحم ودم. لا يعلمك محمد المساح بكتاباته، فحسب، هو قبلها وبعدها يلهمك بذاته كإنسان. لم يعرف الزيف يوماً، هذا المساح المؤزر بأصالته وصدق شخصيته. 

كل مشاعر قوية تنتج فينا فكرة الفراغ. الهوة الفاصلة بين ما تحس به، وما تحمله الكلمات من قدرة على احتواء المعنى.

محمد المساح نوع نادر من البشر، يتركك حائراً في بحثك عن لغة تعادل إحساسك به؛ كاتب يلامس شغاف القلب، وشخصية فريدة، تتجاور فيها قدرة الكاتب المبدع مع فروسيّته ومسلكه النبيل وطبعه الرفيع.

- رمزية المساح وجيل سبتمبر

المساح مُرمز. كل ما فيه يشي بذلك، هيئته، طريقته في الكلام، مشيته، شاربه المعقوف، مئزره الذي لا يشبهه فيه أحد، وبسمته؛ إذ يكاد وجهه كله أن يكون بسمة واحدة مشعة، لم تفلح تجاعيد العمر أن تخفيها.

طريقة لبسه للمعوز تكاد تكون الفورمة، الماركة التي تُميز جيلا من الرجال جمعوا بين تطابق المعنى والمبنى، رجالا بزغوا في صنعاء مع فجر ثورة سبتمبر، جيل الفرسان؛ فناني حياة، وفرسان مسلك رفيع، على اختلاف وجهاتهم الحياتية: طلاب وجنود وكُتاب، ضباط الفاتحة السبتمبرية، عمال وتجار وحِرفيون، وأصحاب مهن من كل نوع من جيل الستينات والسبعينات.

نادرا ما تجد أحد يشبهه في لبس المعوز هذه الأيام. أتذكر رجل يشبه المساح في فرادة شخصيته، ومثله، يجيد لبس المعوز ويجيد مهنته؛ مدهش، ملك الشاي، صاحب المقهى الشهير في حي المواصلات في التحرير. بشر أصيلون، ملوك في أي مجال يمضون فيه، الكتابة في حالة المساح، والشاي لدى مدهش. من يستيطع تقليد شاي مدهش، على كون ذلك مهنة عادية بسيطة تكاد أن لا تنطوي على أي تعقيد يمنع أحدهم من تجاوزها. هي الروح، روح الفنان، في أي مجال يجد نفسه فيه.

روح الفنان تتجلى لدى محمد المساح في عمود أختار إقتطاع "لحظة إنسانية" في زمن كان يمضي غير آبهٍ بزحامات غفلية، يحاول المساح تذكيرها بدفق الزمن وحركيته التي لا تقف عند العالقين بالماضي وقيوده وأثقاله، ولا تنتظر يقظتهم بعد فوات الأوان.

- لحظة يا زمن

الكتابة عن محمد المساح، مُلامسة لشغاف القلب، وتحديق في مسار زمني متنوع وغني بتفاصيل لحظات فارقة اعتصرت القلب والجسم الناحل، تماماً بقدر ما استنزفها بأنامله وخطها في زاويته الشهيرة في أخيرة "الثورة": لحظة يا زمن.

في لحظة المساح لا تعود الكتابة روتيناً وظيفياً شبيهاً بكرفتات لامعة، وصوراً مزنجرة ببسمات عريضة وهذيان يومي، وهامشها الحبر. في لحظات المساح تغدو الكتابة مهمة صعبة، ترجمة لذاكرة عينان تمسحا تفاصيل المدينة وسحنات ناسها وإيحاءات معيشهم اليومي، وتغوصا في خبايا مدينة خبرتا أزغاطها وهوامشها.

لحظات المساح المكثفة كانت مساحة زمنها المميزة في أخيرة "الثورة". كتابة أخذت على عاتقها التقاط صورة خارج مألوف العلاقات الميتة لمدينة جافة وخالية من الحميمية.

من هنا كانت عينا المساح تتخطيا، بخبرة ريفي متوجس، طافيتي السطح، لتبرزا وجها آخر لمدينة تطبّعت وجوهها على السرية، وإخفاء المشاعر. كشف الستائر عن باطنية حياة تستدعيها كوابح "العيب" والقبْيَّله، وبلادة "قع رجال!"، التي لا تعني شيئاً سوى قع فراغاً صفصفاً من الأنسنة وتفرد المشاعر.

لا مفاجأة إزاء هكذا كتابة أن يُنهك صاحبها باكراً في مؤسسة، وبلد تعودتا على احتقار المبدعين. يُنهك المساح وتُبلى مجساته في مشهد ظل يفرض عليه طوال ما يقرب من أربعين عاماً، برواز قفص متمرّد يجدف عكس التيار لمجرد كونه يكتب وفق إشارات فنائه الداخلي.

ليس لدواعي السياسة في صراع الكراسي، بقدر ما هو تمنع المساح عن السماح لزعيق القطيع باختراق أجواء عالمه الداخلي الشفيف.

محض صخب يعرفه المبدعون ويتوجسون خيفة منه. صخب لا يقبل، لاستيعابك في ضوضائه، بأقل من اختراق ذاتك، استقلاليتك، ليستقر في عمق المنطقة الشفافة في عمق روحك. بكلمة، يفقدك ذاتك لتغدو صدى لكل شيء، ولا شيء، في وقت واحد.

وهذا ما تجنبه محمد المساح وعاش حياته حتى آخر نفس متحررا منه، صافياً، نقياً، حقيقياً وقابضاً على أصالته في كل المراحل، وأمام كل التقلبات والملمات والانهيارات التي تُوجت بانهيار بلد بأكمله.

- المساح وبجاش والتكريم الوحيد!

المرَّة الوحيدة، التي كُرم فيها المساح، كانت أثناء فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة العربية.

كان يتلفت يمنة ويسرة بوجل ريفيٍ شغوف، قدم لتوّه صنعاء مزدحمة تطأها قدماه لأول مرة.

صدى الكلمات في المنصة، والتقدير الاستثنائي في القاعة كان واضحاً في إحمرار عينين شارفتا على البكاء في وجه المساح الذي لم تفلح عقوداً من الزمن في تخشيب أحاسيسه.

حتى في منصة تتويجه لم يجد المساح ما يحتمي به غير "أصالة ريفية" لازمته كمرفأ، وسورٍ واقٍ من ضوضاء المدينة طوال أربعة عقود.

لحظة المساح في "بيت الثقافة" كانت الأكثر بهاءً في سلسلة تكريمات شهدتها صنعاء في "عوصمتها" الثقافية آنذاك.

أتذكر تلك الفعالية جيداً.

الحضور كان استثنائياً ومُهيئاً لمشاعر حميمية إزاء المساح الأكثر شفافية في لحظته اليومية، ولم يكن أنسب من مداخلة عبدالرحمن بجاش، الأكثر اقتراباً من المساح ومعايشة له، لاستدراج أجواء وتفاصيل خبراها معاً في مسارهما إلى قاعة بيت الثقافة.

لا يمكنك فهم عالم المساح بدون الإصغاء لمرآته وصاحبه عبدالرحمن بجاش.

أتذكر حديثه آنذاك، وأقرأ اليوم حلقتين في صفحته الفيسبوكية عن المساح، وكأن مونولوجا متصلاً ومستمراً يتلامع في ذهني من تلك اللحظة إلى اليوم.

أهم ما شهده حفل التكريم آنذاك، سرد بجاش في المنصة، باستحضاره لتفاصيل حياة عاشها الشائب المؤزر الجالس بجانبه على منصة التكريم. تحدث عن الحياة بدون دوبلاج، الأزقة والحوانيت، المقوت وسلتة لاهب، وشقاوات لعب كرة القدم، وكولسات نقابة الصحفيين. الكولسة التي تتوج في نهاية المطاف ب"أوبه يا ليد على الزرقة!" كتعبير عن رحابة أفق مساح لم يترجم الخلاف إلى خصومات، وظل حريصاً على علاقات إنسانية ومهنية تتجاوز خلافات متوقعة ومطلوبة.

لن تكتمل صورة المساح بدون أن يستكمل عبدالرحمن بجاش كتابة ما يزدحم في ذاكرته من سيرة حياة تماهى فيها مع صاحبه؛ صحافة وكتابة وحياة ومواقف ورفقة يومية وأحاسيس، وصداقة هي المثال الأكمل لكل ما يمكن أن تعد به كلمة "صداقة" من نُبل ومحبة وتضامن وأخوة إنسانية.

- العودة إلى القرية

احتمى المساح بأصالته الريفية نصف قرن. سنوات حافلة بشريط ذكريات طويل من الصراعات والتشكّلات. طيف واسع لوجوه وتحولات حياة طبعتها مناخات العمل السري لشباب تاقوا إلى التغيير برومانسية قراهم الأليفة، وملاحقات عسس أجهزة صُممت للتربص بكل جديد متوهج. رصده وتفخيخ مساراته.

لم يستقر المساح في صنعاء، وبقي قلبه في كل مراحل حياته معلقاً بقريته البعيدة خلف الجبال.

عودته إلى القرية تحولت في لحظات معينة إلى اعتزال لعالم صنعاء التي خبِرها وتفتح وعيه في أيامها الباردات. اعتزال المدينة، التي تفتق ذهنه بنكهة قاتها، وأريحية رتمها اليومي، ولهجة نسائها المغناجة.

عاد المساح إلى ريف ظل ساكناً في الحنايا، ومحدداً لنبض أحاسيسها. عاد إلى قرية "الردع" حيث هيجة الجن، وبركة الديك التي "تُلاهف"، والمعيان، جبل يُمين، وسهدان، والولي عبدالعزيز الذي أدهشه يوماً قي قرغيزيا الآسيوية وهو يشاهد مبنى طبق الأصل ل"وليه" فوقف مذهولاً: يا إما العزاعز أتت إلى قرغيزيا، أو أن قرغيزيا قد ذهبت يوماً إلى العزاعز.

عودة المساح الأولى هذه حدثت بعد حرب 94.

ذهب إلى "منصورة العزاعز" ليبيع في أحد الدكاكين بطاريات وزيوت السيارات، مفتشاً عن هدوء معتاد بعيداً عن مُثيرات صنعاء بخليطها العجيب والمتنافر؛ وجوه مسطحة، أرصفة، متربصين، أقنعة، نساء، مقاهٍ، انتظارات المعاش، الأقساط، التزام اللحظة اليومية في أخيرة "الثورة".

لم يقنع القلب المتوثب. أسهدته عينان مفتوحتان على محجريهما، افتقدتا ما تجسانه خارج أيام صافية مكرورة.

في العودة الأولى أحتاج المساح سنوات لتعاوده "حكة الأنامل" للكتابة من جديد.

في المرة الثانية، لم يصمد المساح كثيراً. عاد مسرعاً إلى صنعاء التي اعتادت عليه كما اعتاد عليها. أشهر معدودة، عاد بعدها إلى صنعاء التي أدمنت قرعات رجليه العاريتين إلى ما فوق الركبة، ومئزره الذي غدا علامته المميزة، ومفتاحه الأكثر ملائمة للدخول في شخصية تدعى محمد المساح.

في العودة الأخيرة للاحتماء بالقرية، كان كل شيء قد انهار في صنعاء واليمن كلها: الدولة، المؤسسات، الراتب، الوسط الصحفي، المدن والقرى. دخلت البلاد كلها في البرزخ بعد أن خرجت الغيلان والذئاب الكامنة لليمن من تحت الأرض، ومن فوقها، ومن سمائها، ومن كل جهاتها.

أدرك محمد المساح موهبته في الوقت المناسب. وانتبه لشيخوخته في الوقت المناسب، إذا اعتزل كل الضجيج، وعاد إلى قريته ليقضي سنواته الأخيرة برفقة أغنامه، يتأمل الأبدية وجهاً لوجه فيما يراه أمامه من مشاهد الطبيعة الفائضة بما يُلهم الروح ويسمو بنغمتها.

رحل محمد المساح، مطمئناً أنه عاش حياة لم يزيّف فيها روحه، وأن ما هو حي وجميل في أعماقه كان دوماً أهم بالنسبة له من كل شيء آخر.

رحل محمد المساح ولا نملك سوى أن نجلس بصمت، نتأمل صورته وسيرته، ونتعلم منه معنى أن تكون إنساناً حقيقياً وأصيلاً ومبدعاً وغير منفصماً. نتأمله ونتعلم منه كيف يكون المرء صادقاً مع طبيعته، وقادرا على التحرر من إغواء السباق مع الرجال الجُوف، وبريقهم الزائف.

مقالات

هذه البصمة وهذا الإنجاز

بعد غياب دام أكثر من عشر سنين، عن مدينة الطفولة والتعليم الأساسي؛ مدينة تعز، وأثناء طوافي القصير خلال إجازة العيد في أحياء مدينة تعز، شد انتباهي واستوقفني هذا الصرح العلمي، الذي ينتصب في "مديرية المظفر"؛ الذي اُستكمل إنشاؤه وتجهيزه مؤخرا؛ وهو عبارة عن "مدرسة أساسية وثانوية للصم والبكم

مقالات

عن الكتابة

تاريخ الكتابة هو محاولات مستمرة لتجاوز الهوة الفاصلة بين الإحساس الحقيقي والنص المكتوب. كل المشاعر الحقيقية هي في الواقع غير قابلة للترجمة.

مقالات

حكاية الكافرة شجون ناشر (1-2)

في "سنة الجُدَري"، شاع الخبر في "قرية العكابر" بأن شُجُوْن ناشر كفرت بربّها، ودخل الشك إلى قلبها، وتوقفت عن الصلاة، وبدلاً من أن تصلي صارت تغنِّي، وأصبح الغناء صلاتها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.