مقالات
النضال بسعر السوق!
لا يتحرَّج قادة الأحزاب السياسية عن مُمارسة دور المعارضة حتى وهم شركاء في السلطة القائمة.
ينطوي الأمر على قدر عالٍ من الاستخفاف باليمنيين، وبقدر أعلى من الاستغفال "لقبائلهم" الحزبية من القواعد والأنصار.
في منتدى اليمن الدولي الثالث، الذي نظّمه مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية في العاصمة الأردنية عمّان، شاهدنا قيادات العمل السياسي وشركاء الحكم يؤدون أدواراً مثيرة للسخرية.
يتصرف هؤلاء وكأن الشعب اليمني مجرد جمع من السُذج يمكن إلهاؤه بفرقعات إعلامية تعيد هذه القيادات إلى الواجهة كأبطال، لكأنهم بدأوا للتو في العمل كأحزاب معارضة!
شاركت هذه الأحزاب، بلا استثناء، في السلطة، منذ 2012، وكانت الفاعل الأهم في تبديد ثورة اليمنيين في 2011، وتحويلها إلى وليمة لتقاسم الغنائم، وتشجيع صالح على الانقلاب.
أما بعض هذه الأصوات المرتفعة الآن، بشكل مقزز، فقد مارست كل أشكال التسويق لمليشيا الحوثي، والترحيب "بالقوة الفتية"، و"ثورة السيد عبدالملك".
مع اندلاع الحرب، شاهدنا تطوراً في مهارات عروض الأكروبات السياسية، فتوزّع جهدها بين صنعاء وعدن، تبيع لكل طرف ما يستهويه، وانقسمت إلى فولة "نضالية" تكمِّل بعضها في كل جزءَ!
سيتطوَّر الأمر أكثر، وسنرى أن "سوق السياسة" يتمدد خارجياً فيغدو التحالف محجاً وطوافاً شبه دائم إلى مقر ثكناته العسكرية في عدن ومقر قيادته في الرياض وأبوظبي.
لقد رأينا كيف تنوَّع قيادات الأحزاب مقارباتها "الوطنية" للأزمة الوجودية، فالبعض يتقلّب بين أيدي السعودية وآخرون يموتون "بدباديب" الإمارات، رغبةً في استعادة "الوشائج القومية"، والتخلّص من شح "الإنتاج"، وتدوير عجلة العمل "الوطني"، والقضاء على البطالة، وصناعة فرص عمل "للشِّغيلة" من الكادحين!
طوال هذه السنوات العجاف من الحرب، حيث يدفع اليمني العادي ثمناً فادحاً من دمه ومعيشته ويتبدد بلده، كانت القوى الحزبية و"الطلائعية" على نحو خاص تنمو وتتكرَّش أكثر، وكانت سنوات الكفاح مريرة، لدرجة أن بعضهم صار يواجه عجزاً في القدرة على السير بسبب هموم السمنة "الوطنية" الرهيبة.
لقد واجهت هذه القوى كل المنعطفات التاريخية، والتحولات الصعبة في حياة البلد، برباطة جأش منقطعة النظير، وتحمُّل تاريخي للمسؤولية إلى الحد الذي يجعل القائد الحزبي جريئاً في عدم تحمَّل المسؤولية عن أي شيء شارك في صناعته وإنتاجه!
في اليمن، القائد الحزبي دائماً على صواب، مثله مثل أي زعيم "مُلهم". هو ليس مسؤولا عن مواقفه، ولا عن تصريحاته الموثَّقة، ولا يتحمَّل أي مسؤولية عن الكوارث التي شارك في إنتاجها، ولا عن العلاقات غير المشروعة التي ينسجها مع دول أخرى!
خذوا هذا مثلاً: عندما شرعت الرياض في الترتيبات لنقل سلطة هادي إلى مجلس قيادة رئاسي، جرى استدعاء جميع قيادات وأمناء عموم الأحزاب إلى ما يشبه مهرجان ترفيهي تحت مسمى "مشاروات الرياض".
في هذا المهرجان، مُنح هؤلاء، بالإضافة إلى المشاركين، إقامات سعودية دائمة تمكِّنهم من الدّخول والخروج إلى الرياض متى شاءوا بالإضافة إلى عطايا مالية معتبرة.
بعض هؤلاء، الذين اكتشفوا، بعد ثلاث سنوات، أن ما جرى هناك كان "انقلابا غريبا"، كانوا الأكثر حماساً للتخلّص من رئاسة هادي، وضرورة القيام بـ"عملية جراحية عاجلة".
الكلام المنصص في الفقرة السابقة اقتبسه حَرْفياً مما قاله وقتها أمين عام حزب في اللجنة السياسية للمشاورات بحسب أكثر من مصدر!
لقد استخدم التحالف رغبات هؤلاء "القادة الشُّجعان" لتمرير إرادته"، وبعد الفراغ من قضاء حاجته حشرهم جميعاً كالكباش في غرفة، ثم أمر بإعلان قرار نقل السلطة!
مثل كل تحوّل سيئ شهدته البلاد، ساهمت هذه الأحزاب وهذه القيادات المؤبَّدة نفسها في اقترافه، تتنصَّل مختلف الأطراف من مسؤوليتها في إنتاج هذا الحال المسخ.
كما أن رصيدها من الوقاحة بلا حدود ما يمكّنها ببساطة أن تمسك بالميكرفون باستفزاز لتتحدث في كل شيء، وكأنها كانت مجرد شاهد زور.
يشاركون في مجلس القيادة وفي مراحل إنتاجه، لكنهم غير مسؤولين عن فشله، وشركاء في الحكومة وفسادها غير أنهم أبرياء، ولا يتحمّلون وزرها!
هؤلاء الذين استمرأوا السلطة، يتقاضى الواحد منهم 40 ألف ريال سعودي شهرياً "ما يوازي 12500 دولار"، كمستشارين لرئاسة هادي، ولاحقاً مستشارين لرئيس مجلس القيادة.
مع ذلك، وهم يرفعون عقيرتهم مثلنا كرعايا بسطاء، لا يكفون عن المزايدات والصراخ في الوقت نفسه الذي يطالبون فيه في الجلسات المغلقة بالمزيد من المزايا والمكاسب والتعيينات والحصص!
هناك نقاط تشابه كبيرة بين مركز صنعاء، الذي أعد لهذه الفعالية الدولية عالية البرستيج، وبين قادة الأحزاب السياسية، ما يشير إلى انتقال سلس "لميراث النضال" بين الأجيال.
لا يعمل "صنعاء" كمركز تفكير يمني يهتم بصياغة تصوّرات للمشاكل اليمنية العميقة، بل يمارس نشاطه على الطريقة الأمريكية، حيث يُعد تصورات بطلب مسبق من المموِّلين.
شيء ما من رأسمالية السوق!
قبل أن يتم الإطاحة بهادي "بأغرب انقلاب" -على حد تعبير المناضل العتيد- كان مركز صنعاء قد أعد دراسة عن القيادة الجماعية للدولة اليمنية.
خلاصة هذه الدراسة تنصح بتشكيل هيكل قيادي جديد للشرعية بمبرر توسيع المشاركة.
سيتضح لاحقاً أن الدراسة لم تكن من بنات أفكار المركز، بل جاءت بطلب سعودي كما كشف عن ذلك كبير الباحثين في المركز، عبدالغني الإرياني، في مقابلة مع الإعلامي القدير عارف الصرمي.
أرادت الرياض أن تمرر تغيير هادي وشرعنة التغيير باعتباره نتاج أفكار يمنية رفيعة!
يعرف السعوديون، ومركز صنعاء قبلهم لا شك، أن تجربة القيادة الجماعية في اليمن بشطريه وصفة سحرية للصراع!
اليوم يقود المركز نفسه، مع قيادات الأحزاب والمكونات نفسها التي شاركت في تمرير الوصفة السعودية، دردرشة الحدوتة نفسها.
الآن يقول الجميع لليمنيين: إن الفكرة لم تكن جيِّدة، لتستعدوا إذن لروشتة أخرى، وإنزال مظلي جديد لأفكار وقيادات خارقة. هكذا ببساطة يُصنع التفكير ويُدار العمل السياسي في اليمن!
مع الأخذ في الاعتبار الفارق بين وظيفة مركز دراسات والأحزاب السياسية، إلا أن كل الطرق تؤدي إلى ارتهان اليمني، ومحاولة تسويق بيعه مرَّة أخرى في سوق، تبدأ في إيران ولا تنتهي في الخليج!