مقالات

النظام العالمي في قفص لاهاي!!

16/01/2024, 20:36:55

الرسالة الأخلاقية في عالم يفقد إنسانيته، جاءت من جنوب أفريقيا.

لا دولة في العالم أكثر ملاءمة منها، لتكون الصوت المناهض للإبادة الجماعية العنصرية. 

 يحكم هذه الدولة الأفريقية نظام سياسي وُلِد من انتصار الحق على القوة، انتصار حركة تحرر وطني ضد نظام الفصل العنصري "الآبارتاهيد".

تقف جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية لتقدم دعوى تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة.

هنا يتطابق الموقف الأخلاقي الإنساني مع طبيعة دولة مانديلا، ونظامها السياسي الناتج عن تسوية تاريخية أنصفت المظلوم من الظالم، أو بتعبير أدق؛ أسست طريقا للإنصاف والعدالة والتعايش. 

الجريمة في غزة أكبر من أي عقوبة. لا قانون جنيف ولا القانون الإنساني الدولي بإمكانه أن يفترض عقوبة مناسبة لحجم الجُرم. لكن تقديم الدعوى بحد ذاته وضع كيان الإبادة في قفص الاتهام. 

أمام جُرم بمستوى إبادة جماعية، لا تكون المحاكمة إلا أخلاقية وقيمية أولاً. محاكمة الحرب، المستمرة بحماية ورعاية سياسيي أمريكا وأوروبا "سلطة ومعارضة".

 كسر حاجز الحظر في أوروبا على القضية الفلسطينية الحاجز الذي لم تفلح في تذويبه تظاهرات غاضبة عمت كل الشوارع الأوروبية والأمريكية. 

وضعت الدعوى الجنوب أفريقية إسرائيل في قفص اتهام أمام العالم كله، لا محكمة العدل الدولية فحسب. 

غالبا ما تكون دعاوى جرائم الحرب والإبادة الجماعية لاحقة للحروب، وتقام بعد فترة من إنطفاء النيران وأحقادها. ينظر إلى هذه الدعاوى والمحاكمات المتصلة بها كمهمة من مهام المراحل الانتقالية بعد الحروب الكبرى. 

قضية الإبادة الجماعية في غزة حالة مختلفة. تُرفع الدعوى هنا كمحاولة لإيقاف جريمة إبادة جماعية جارية ومستمرة وتتواصل فصولها في غزة. 

تقام الدعوى هنا لإسقاط إنكار إسرائيلي غربي يفرض سردية إسرائيل، ويحجب سردية شعب يقدم التضحيات من أجل التحرر من الاحتلال من 75 عاما لا من أكتوبر 2024.  

تقدم الدعوى في محكمة العدل الدولية لمحاكمة كيان احتلال استيطاني مسنود بدول كبرى ومدعوم من دول أوروبا، وتتبنى أكاذيبه المضللة وسائل إعلام عالمية. 

الدول، التي تمنع قرارات الأمم المتحدة بوقف الحرب، تضعها دعوى جنوب أفريقيا في قفص الاتهام بمحكمة العدل الدولية بجانب إسرائيل. 

النظام العالمي بقيادة أمريكا موجود في قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية. هذه محاكمة أخلاقية لدول كبرى مهيمنة على العالم، وآخر جرائمها رعاية حرب إبادة في غزة. 

مواجهة قانونية بهذا الحجم تضع الغرب في قفص الاتهام.

هل بإمكاننا وقف حرب الإبادة والتغلب على نهجها السياسي المتوحش بأدوات السياسة والقانون؟

كسرت أمريكا وبريطانيا أدوات السياسة والمؤسسات الأممية. قادت أمريكا هذه الحماية لحرب الإبادة، ودعمت استمراريتها، وعرقلت مجلس الأمن من اتخاذ قرار يوقفها باستخدامها لحق الفيتو عدة مرات. قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف الحرب أتتخِذ بأغلبية ساحقة تعبر عن موقف عالمي ضد الحرب ويطالب بالإيقاف الفوري لها، لكنه اصطدم بهيمنة أمريكية مدعومة بمواقف دول أوروبية ساندت الحرب ودعمتها. 

اخترقت جنوب أفريقيا حائط الصد الغربي وألقت بمبادرتها القانونية الإنسانية حجرا ضخماً في ساحة القانون الإنساني الدولي ومحكمته العدلية:

ها قد جئناكم عبر مؤسسة تتبع الأمم المتحدة، وضمن قواعد قانون دولي أنتم من وقع عليه وسعى نحوهُ أيها الغرب الديمقراطي الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان. هذا لسان حال وفد جنوب أفريقيا، ومن حولها وخلفها شعوب العالم الغاضبة من حرب الإبادة الإسرائيلية، والمطالبة بوقفها ومحاكمة مرتكبيها والمشاركين فيها. 

الإنصاف لا يتحقق هنا بقبول الدعوى، ولا يتحقق بالحكم فيها بإدانة قادة الكيان المحتل كمجرمي حرب؛ رغم ان هذا مستبعد ولن يحدث.  

العدالة تتحقق أولاً بإجبار إسرائيل والدول الغربية على الاعتراف أن ما يحدث هو إبادة جماعية. أن يواجهوا حقيقة تقول إن التضليل غير قادر هذه المرة على تزييف حقيقة الصراع في فلسطين. 

الإنصاف في هذه المحكمة الأخلاقية العالمية يبدأ بتحويل ما يرويه الفلسطينيون، وما يشاهده العالم، وما يوثقه الإعلام ومنضمات حقوق الإنسان، إلى دعوى قانونية تمثل وثيقة اتهام أخلاقي وقانوني لدولة الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب مذبحة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. 

مئة يوم من الإبادة واجهتها مئة يوم من الكرامة والثبات لشعب غير قابل للكسر.  هذه عناوين جريمة الإبادة الجماعية في غزة: مئة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح. 85% من سكان غزة نزحوا؛ 2 مليون فلسطيني يواجهون الحصار والتجويع والافتقاد لأدنى احتياجاتهم الإنسانية. تدمير مدن غزة بعد مئة يوم من غارات ألقت آلاف القنابل فوق السكان وأحيائهم، مدارسهم ومستشفياتهم، أطفالهم ونسائهم. 

لا يستطيع أن يشعر بآلامك إلا من اختبرها في أعماقه مثلما عرفتها أنت في أعماقك. أليست جنوب أفريقيا وإيرلندا أوضح المواقف المساندة لفلسطينيي غزة، وأبرز المواقف الرافضة لحرب الإبادة التي تستهدفهم؟

إيرلندا كانت مستعمرة بريطانية، ولم تتحرر وتحصل على استقلالها إلا بعد انتفاضات وتضحيات ونضال طويل.  

 جنوب أفريقيا عاشت أطول مرحلة من نظام التمييز العنصري للمستوطنين البريطانيين البيض الذين خلفوا دولتهم في استعمارها لأكبر دولة في أفريقيا. وتوجت حركة التحرر، التي قادها مانديلا، بسقوط نظام التمييز العنصري. 

خلال أول زيارة قام بها الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا إلى أمريكا في عام 1991، بعد الإفراج عنه، تم تنظيم حفل استقبال له في نيويورك بحضور شخصيات أمريكية مؤثرة في سياسة الولايات المتحدة. 

أحد الحضور كان رئيس الجالية اليهودية في المدينة، وبعد الترحيب الذي لقيه مانديلا في القاعة، وفي المدينة التي زُينت سماؤها بالبالونات، وطاف بكل شوارعها، أدلى رئيس الجالية اليهودية بمداخلة معادية لكفاح الشعوب بسؤال مانديلا:

أنت تقيم علاقة مع شخص "إرهابي" اسمه ياسر عرفات، كيف تفسر لنا هذه العلاقة مع الذي ألحق الأذى باليهود؟".

رد مانديلا على ذاك السؤال بهدوء: 

"ياسر عرفات ليس إرهابيا كما تزعم، عرفات مناضل من أجل تحرير بلاده، وحرية شعبه، إنه رفيق نضال لي شخصيا ولحزب المؤتمر، الذي قاد النضال ضد نظام الفصل العنصري في بلادي..  قدم المساعدة لنا ولعائلتي خلال فترة اعتقالي، ورؤيتك لن تغير موقفي ولا موقف المناضلين ضد الاحتلال والعنصرية شيئا؛ لأن عرفات ضد احتلال بلاده".

وتابع مانديلا في ذلك اللقاء الشهير: 

"الفكرة السيئة هي أن البعض يريد منا أن نعتبر أعداءهم أعداءنا".

قال له يهودي آخر يحمل صفة رئيس الوكالة اليهودية في أوروبا:

«أنت تخسر الموقف الأمريكي والأوروبي نتيجة مواقفك مع الفلسطبنيين؟».

رد مانديلا:

«أنا لا أغير موقفي وقيمي بناءً على الطرف الذي أتحدث إليه». 

بمثل هكذا مواقف مبدئية أسس نيلسون مانديلا جنوب أفريقيا الجديدة. جنوب أفريقيا كبلد لجميع أبنائه السود والبيض. جنوب أفريقيا، التي نراها اليوم تتصدر الدفاع عن الإنسانية المستهدفة بحرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة. 

كل فلسطيني عاني من الظلم وغطرسة الاحتلال وسياسات الاقتلاع وحروب الإبادة الصهيونية، هو أقرب الخلق إلى نيلسون مانديلا، ومن يواصلون مسيرته ورسالته التحررية والإنسانية في جنوب أفريقيا.

أتذكر صورة مروان البرغوثي خلف قضبان سجن الاحتلال الإسرائيلي، ومعها تحضر قصيدة كان نيلسون مانديلا يعتبرها قصيدته المفضلة، ورددها مرات لا تُحصى خلف قضبان سجنه، الذي استمر 27 عاماً. 

القصيدة التي كتبها الشاعر الأسكتلندي ويليام هيكسلي في القرن التاسع عشر، ثيمة للحرية في كل روح تتوق إليها:

خارج الظلام الذى ينهال

كسواد الحُفر بين الأقطاب

أشكر الرب فى كل الأحوال

إذ رفع روحى إلى أعلى السحاب

أمام قبضة النصيب

لم أفزع أو أبكي جهرا

وتحت مطرقة المصير

نزف رأسى وبكن لم ينحنِ

ما وراء هذا المكان الحزين

لا يظهر إلا رُعب الأطياف

ومع مخاطر السنين

تجدني وستجدني لا أخاف

لا يهم أن الباب ضيق أو صغير

لا تهم شدة العقاب

أنا سيد مصيري

أنا قائد روحي

مقالات

أبو الروتي (3)

(لحظة انطلقت بنا السيارة شعرت بأنّي كبرتُ، ولم أعد طفلا) فيما رحت أتقدّم باتجاه بيت جدي علي إسماعيل، تذكّرت كلام جدتي، وهي تودّعني عند مشارف القرية، وتقول لي:

مقالات

المساندة لكيان الاحتلال والأكفان لفلسطين!

منذ البدء؛ اختارت الكثير من الأنظمة العربية توزيع الأكفان في غزة. كان ذلك يختصر كل شيء: نتنياهو مطلق اليد، يتولى ذبح الفلسطينيين، بينما ستحرص هذه الأنظمة على أن يكون تكفين الضحايا عربياً خالصاً!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.